الثلاثاء، 6 مايو 2025

معركة القيم الرقمية: آدم وحواء في عصر التيك توك!

 
معركة القيم الرقمية: آدم وحواء في عصر التيك توك!

في زمنٍ تحوّلت فيه الشاشات إلى نوافذَ نعيش من خلالها، وقيمُنا إلى سلعٍ تُعرض في "سوق الانتباه"، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف نحافظ على إنسانيتنا في عالمٍ رقمي يتبارى فيه العمق مع السطحية؟ 
 
هذا النص هو رحلةٌ ثلاثية الأبعاد: يبدأ بطرح الأسئلة المُقلقة في الجزء الأول، ثم يتحول إلى حوارٍ درامي يُجسّد الصراع بين الرفض والمشاركة في الجزء الثاني، وينتهي بمونولوجٍ وجودي في الجزء الثالث يصرخ بسؤال: "هل نستسلم أم نُشعل شمعة؟". ثلاثة أساليب مختلفة، لكنها تشترك في خيطٍ واحد: البحث عن معنى الكلمة والقيمة والإرادة في عصرٍ يُسابق فيه الجميع نحو الحضيض.  

الجزء الأول:
هل نحرق التيك توك أم نضيء به العالم؟

أنت الآن تحمل سلاحًا ذا حدين.. هاتفك، قد يكون جسرًا إلى العالم، أو سجنًا لعقلك!، تخيل معي هذا المشهد: فتاة ترقص على أغنية هابطة، وآلاف التعليقات تلهث وراءها، بينما في الزاوية البعيدة، منشور عن كتاب "الأيام" لطه حسين لا يجذب سوى خمسة "لايكات"!؛ هنا يبرز السؤال الذي يجب أن نحطم به صمتنا: هل المشكلة في المنصة أم في أيدينا التي حوّلت الساحات إلى مسارح للعبث؟

دعني أخبرك بقصة صديقي الذي قرر مقاطعة كل المنصات لأنه "لا فائدة منها". بعد عام، وجدته يشتري كتابًا من تأليف كاتب اكتشفه عبر "انستغرام"! المفارقة هنا أن الكاتب نفسه كان يرفض المنصات مثله، ثم اضطر لاستخدامها حين اكتشف أن مكتبات بلاده لا تبيع إلا كتب الطهي والرومانسية الرخيصة. هل فهمت المغزى؟ المشكلة ليست في "الوعاء"، بل في "ما نضع فيه". حين تتحول المكتبات إلى مخازن للرداءة، أليس من العبث أن نلوم القارئ الذي يبحث عن الضوء في الشاشات؟  

لكن.. انتظر! قبل أن ترمي كلمة "مثالي" في وجهي، أعترف لك أنني أيضًا أشمئز حين أرى "التريند" اليومي هو مشاجرة فنانين، بينما اكتشاف علمي مهم لا يظهر إلا في زاوية صغيرة، لكن هل يعني هذا أن نحكم على الوسيلة بالفشل لأن البعض أساء استخدامها؟ تذكر حين اخترع الإنسان النار، أحرق بها الغابات أولًا.. ثم صنع منها الحضارة. السؤال الحقيقي: هل نستحق هذه الأدوات؟

الأمر أشبه بمعركة بين "آدم" الذي يصر على نشر الفكر رغم كل شيء، و"حواء" التي ترفض المشاركة احتجاجًا على السطحية، لكن الحقيقة التي تغيب عنهما هي أن المنصات مثل السكين: قد تقطع بها خبزك، أو جسد إنسان! الفرق ليس في السكين، بل في اليد التي تمسكها. أتعرف لماذا ينجح بعض "الإنفلونسرز" في بيع الوهم؟ لأنهم فهموا شيئًا ننساه دائمًا: الفراغ ينتشر حين ينسحب العقلاء.

لنكن صرحاء: المشاهدات ليست دليلًا على القيمة، لو كان الأمر كذلك، لكانت إعلانات المشروبات الغازية أعظم من خطب مارتن لوثر كينج! لكن التاريخ لا يُقاس بعدد "اللايكات"، بل بتلك الكلمات التي اخترقت القلوب رغم صغر حجمها. هل تعلم أن تغريدة واحدة لغاندي هزت الإمبراطورية البريطانية؟ تخيل لو قال لها الناس: "هذا الكلام قديم.. نريد مقطعًا مضحكًا!"  

وهنا يأتي دورك أنت.. نعم أنت! كل ضغطة زرّ هي تصويت: إما لصناعة محتوى يرفع الوعي، أو لإغراق الساحة بزبد لا قيمة له. قد تقول: "أنا فرد واحد، ما تغييري؟" لكن الثلاجة تبدأ بالذوبان حين تتحرك أول جزيء! هل سمعت عن "تأثير الفراشة"؟ قد يكون تعليقك على فيديو صغير هو السبب في إنقاذ شاب من الاكتئاب، أو إلهام طفلة لتصبح عالمة.  

في النهاية، الجيل القادم سيسألنا: "ماذا فعلتم حين كانت المنصات سلاحًا؟" فلنكن صادقين في الإجابة. لن ننقذ العالم بمقاطع فيديو.. لكننا قد ننقذ إنسانًا بكلمة. تذكر دائمًا: حتى في زمن التيك توك، هناك فرق بين أن تكون "تريند".. وأن تكون "خلود".  

الجزء الثاني:
صراع القيم في عصر التيك توك!

(غرفة هادئة، ضوء خافت يلمح إلى دفء الحوار، يجلس "آدم" و"حواء" على كرسيين متقابلين، بينهما شاشة هاتف مضيئة تعكس تعابير وجهيهما المليئة بالصراحة)

آدم: (يمسك الهاتف، صوته حنون لكنه يحمل توبيخًا خفيفًا)  
"حواء.. أرسلتُ لكِ الرابط منذ ساعتين، ولم أجد حتى إشارةً واحدةً أنكِ فتحتِه!"  

حواء: (تتنهد، تلتقط الهاتف بحذر كأنه شوكة نار)  
"آدم.. أعرف أن نيتك طيبة، لكن هل تعرف كم مرة حذفتُ 'تيك توك' من جهازي؟ هذه المنصات كالسرطان – تنشر الفراغ وتقتل الوقت!"  

آدم: (يقترب منها، عيناه تشعان بإصرار)  
"وهل تركنا للسرطان أن ينتشر؟! لو سكتَّ كل الطيبين، فمن سيُسمع صوت الحق؟"  

حواء: (تغلق الشاشة بعنف، ثم ترفع رأسها فجأةً وكأنها تذكرت شيئًا مؤلمًا)  
"حق؟! آدم.. هل تعرف ما هو 'التريند' اليوم؟ فتاة تضع مكياجها بفرشاة أسنان! بينما مقطع للدكتور 'مصطفى محمود' – الذي غيَّر وعي أجيال – لا يحصل على ألف مشاهدة!" (صوتها يرتعش) "أين الحق هنا؟!"  

آدم: (يُمسك بيدها فجأة، بحرارة)  
"لأننا نبحث عن الحق في المكان الخطأ! الأضواء كاذبة يا حواء.. لكن تحت الركام، هناك أطفال يقرأون تعليقكِ على فيديو وقد يغير حياتهم!"  

حواء: (تسحب يدها، تضحكة مريرة)  
"أطفال؟! الذين أعرفهم يسخرون إذا نشرتُ بيت شعر.. ويقولون: 'هذا قديم!'" (تحدق في الفراغ) "آدم.. أشعر أنني في ساحة معركة.. لكن سلاحي قلم، وعدوّي طوفان!"  

آدم: (ينهض، يُشغل مقطعًا على هاتفه بصوت عالٍ)  
"اسمعي.. هذا صوت طفلة عمرها عشر سنوات علقت على فيديوي: 'شكرًا لأنك علمتني معنى الكرامة'.. أليست هذه معركة تستحق القتال؟"  

حواء: (تدمع عيناها فجأة، تهز رأسها ببطء)  
"ربما.. لكن كيف نحارب ونحن منهكون؟ كل يوم يُسرق منا جيل، ويُستبدل عقله ب'ميمز'!"  

آدم: (يجلس أمامها، ينظر بعمق)  
"بالحروف يا حواء! كل كلمة كالبلسم.. قد لا تشفي الجميع، لكنها ستُنقذ واحدًا.. وهذا يكفي." (يُمسك الهاتف) "انظري.. هذا الرابط ليس "لايكات".. إنه شعلة."

(صمتٌ ثقيل.. ثم تمد حواء يدها بتردد، تضغط على الرابط)

حواء: (بصوت خافت كالندم)  
"ربما.. كنتُ خائفةً أكثر مما ينبغي."  

آدم: (يبتسم، يُغلقه الهاتف)  
"الخوف لا يليق بامرأةٍ كتبتْ على حائطها: 'الكلمة كالسيف'!"  
(يخرجان معًا.. الشاشة تنطفئ، لكن الضوء الذي في عيونهم لا يزول)

لا تتركوا للظلام أن يُطفئ شمعةً لمجرد أنكم لا ترون كل الغرفة مضيئة!؛ أعظم الثورات تبدأ عندما يُمسك الواحد منا هاتفه.. ولا يكتب هراءً!؛ التاريخ لا يُسجل من يتابع "التريند".. بل من يصنع "التأثير". حين تموت القيم.. لا تبحث عن القاتل.. نحن جميعًا الجلادون لأننا صمتنا!


الجزء الثالث:
صرخة في زمن التيك توك!

(يُفتح الستار على حواء جالسةً وحيدةً في شرفة منزلها، كوب قهوة بارد بجانبها، وهاتفها ملقى على الأرض كجريحٍ في ساحة معركة. تنظر إلى السماء وكأنها تبحث عن إجابة، ثم تبدأ حديثها مع نفسَها بصوتٍ خافتٍ مليء بالمرارة والحيرة)  

حواء: (تلتقط الهاتف، تتألق الشاشة على وجهها الشاحب)  
"لماذا أتجنبكِ يا تيك توك؟ لأنكِ كالمدينة الفاضلة التي تحوّلت إلى سيرك! كل يومٍ يُعلنون فيه انتصار التافه على الجوهري، والضحك الفارغ على التأمل العميق...  

(تضغط على إشعارٍ لدعوة "آدم" للمشاركة، تتوقف أنفاسها للحظة)  
"هل أنا جبانة؟ أم أنني الوحيدة التي ترى هذا الجنون؟ يُرسل لي الرابط وكأنه منشور إنقاذ، بينما أغرق أنا في سؤال: كيف أصبحنا نستجدي الانتباه؟!"  

(تقذف الهاتف بعيدًا، ثم تندم فورًا، تمسح دموعًا لم تشعر بها تسقط)  
"حتى الآن.. لا أعرف ما أخاف منه أكثر: صمتُ أمتي.. أم صرخاتها البلا معنى؟!  

(تقف فجأةً، تتمشى في الغرفة وكأنها تحاول الهروب من ظلّها)  
"أنا لا أكره المنصات.. أنا أكره أننا حوّلناها إلى مرايا تعكس فقط قشورنا! فيسبوك؟ سوق للمظاهر. تيك توك؟ مسابقة لمن يبيع كرامته بأرخص سعر!  

(تتوقف أمام مرآة، تحدّق في انعكاسها)  
"متى أصبحتِ غريبةً في وطنكِ يا حواء؟ لأنكِ ترفضين الرقص مع الذئاب؟ لأنكِ تصرّين على أن للكلمة رنينًا يفوق ضجيج الأغاني؟  

(تهوي على ركبتيها، تُغمض عينيها)  
"لكن.. ماذا لو كان "آدم" محقًا؟ ماذا لو كان كلّ ما يحتاجه العالم هو صوتٌ واحدٌ شجاعٌ ليهزّ هذا السبات؟  

(تفتح عينيها فجأةً، وكأن شرارةً عبرتْ قلبها)  
"ربما الخوف ليس عذرًا.. ربما العيب ليس في المنصة.. بل فيمن يستخدمونها كقنابلَ موقوتةٍ ضدّ عقولهم!  

(تلتقط الهاتف بيدٍ مرتعشة، تضغط على رابط "آدم" أخيرًا)  
"لنجرب مرةً واحدةً.. فلعلّ كلمةً واحدةً تُزهر في أرضٍ قاحلة."  

نخشى أن نكون صرخةً في صحراء.. لكننا نسينا أن حتى الصحراء كانت يومًا بحرًا. ليس العيب في المرآة إن رأيتَ وجهك شاحبًا.. العيب فيمن يخافون من النظر!؛ أتعرفون ما الفرق بيني وبينهم؟ أنا أبحث عن بصيص نور.. وهم يبيعون أعينهم للظلام!؛ لو كان الصمتُ فضيلةً.. لكانت القبورُ أعظمَ المعلّمين!

بعد هذه الرحلة بين الأسئلة والحوارات والصراخ الداخلي، تبقى الحقيقة الأكثر قسوةً وجمالًا في آنٍ واحد: المنصات ليست سوى أدواتٍ ناقلةٍ لأرواحنا. إن حملنا إليها أعمارنا من الفراغ، ستُعيد لنا صورةً مشوّهةً عن أنفسنا، وإن ألقينا فيها بذورَ الأفكار، قد تُزهِر يوماً ما غابةً تُظلّل أجيالًا قادمة.  

الرسالة ليست "انشقوا عن التكنولوجيا"، بل "لا تبيعوا أرواحكم لها". الفارق بين آدم وحواء لم يكن في الموقف من المنصات، بل في الشجاعة لمواجهة السؤال الأصعب: ماذا سنترك وراءنا حين تنطفئ الشاشات؟ تاريخًا من "اللايكات" الفارغة... أم كلمةً واحدةً غيّرتْ مصير إنسان؟  

التحدي الحقيقي ليس في حذف التطبيقات، بل في أن نُعيد كتابة قواعد اللعبة: أن نكون نحنُ البوصلةَ في بحرٍ من العبث. هل هذا صعب؟ نعم. لكنه ا
لطريق الوحيد لكي لا يُسأل الجيل القادم: "لماذا اخترتم الصمت حين كان بوسعكم أن تُضاءوا؟".

جهاد غريب
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سُنة الوجود!

  سُنة الوجود!  في العمق حيث يتنفس الصدق ويتراقص المعنى على حافة الصمت، هناك يكمن السر. ليس سرًا يُكتشف، بل حقيقةً تُعاش، تُلمس بأطراف الروح...