رحلة إلى النور... تبدأ من مجلس العائلة!
اللقاء الأسبوعي ليس مجرد موعد في التقويم أو فعالية روتينية، بل هو صلاة أرضية ترفع القلوب قبل الأيدي، وفعل مقدّس نعيد فيه ترتيب أرواحنا في حضرة الأحبة، إنه مساحة زمنية نسرقها من ضجيج العالم لنستعيد فيها جوهرنا، حيث تتأصل المودة كالبذور في التربة الذهبية للوطن.
كل لقاء هو أثر مضيء، وعلامة وضاءة، وبصمة نور في جدار الزمن، تذكرنا أننا لم نخلق لنكون جزراً منعزلة، بل كيان متواحد تتعاضد أصوله، وشجرة واحدة تتشابك جذورها في أعماق الذاكرة، وتتفرع أغصانها نحو سماء الحكمة.
اللقاء العائلي ليس مناسبة عابرة، بل هو رأس مال الروح، وكنز الوجدان، وذخيرة النفس، وامتداد للرحم النابض فينا!، ففي هذه اللحظات المقدسة، حيث تلتقي العيون، وتتعانق الأصوات في فضاء الدفء، ورحاب الحنان، وأجواء الأنس. ندرك أن السعادة الحقيقية ليست في امتلاك الأشياء، بل في امتلاك تلك اللحظات التي تُنشط الألفة، وتبعث الوئام، وتُحيي المودّة، وتوقظ الذكريات من سباتها.
هنا في هذه الملتقيات الحميمة، والمحافل الودية، والجلسات البسيطة، حيث تُستعاد نوادر الأجداد، وتُحكى قصص الآباء، وتُبنى ذاكرة الأبناء، وتترسخ محفوظات الصغار، نجد أن الحياة قصيرة لكن ذكرياتنا طويلة كالأساطير، وأن الحكمة الحقيقية لا تقتصر على الكتب، بل تكمن في تعبيرات الوجوه التي عرفناها منذ الطفولة، إنها صلة تُرضي الخالق، وتطهر الأفئدة، وتجلو الصدور، وتُهذب الخطى، فتتحول من مجرد لقاءات إلى منبعٍ للروح، وواحةٍ للقلوب، وملاذ للصدور.
أيها الآباء، أنتم الجيل الأول.. الجذور التي لولاها ما اخضرّت أغصانُنا، وحرّاس الذاكرة الذين يحملون جسر العبور بين ماضيٍ صنعتموه بأيديكم، ومستقبلٍ سيصنعه أبناؤكم بقلوبهم، فلا تمنعوا الجيل الثاني من سقي الأصل، ولا تدعوا هذا الجسر ينهار! ففي كل جمعة تُلغى أو لقاء يُؤجل، يخفت سناء، وينطفئ وهج، ويخبو ضوءٌ، ويُنسى إرثٌ عاطفيٌّ، ويحلّ صمت الشاشات محل دفء المجالس!؛ فلتكن مجالسنا فرصاً ننتهزها لرأب الصدع، وإصلاح الشقاق، وإحياء الماضي، وبذر بذور المحبة الجديدة، والمودة المستجدة.
أيها الأبناء، لا تستهينوا بقدسية هذا اللقاء، فأنتم لستم مجرد ضيوف على مائدة الأجداد، بل أنتم حرّاسُ المستقبل، ورعاة الغد، وحماة الآتي الذين ستحملون هذه الشعلة إلى الأجيال القادمة، فكل كلمة تسمعونها اليوم هي وصية حية، وكل ضحكة تُشاركونها هي عقدٌ غير مكتوب على استمرار هذه الرحلة.
اللقاء الأسبوعي مسيرة نحو الإشراق والرشاد، ورحلة إلى الحكمة والنور، وهو صلاةٌ اجتماعية بغير سجادة، فيها الأجر لا يُعد، والقلوب تتصافى، والعيون تبتسم كأنها تلتقي لأول مرة، والنظرات تشرق وكأنها تتعارف، وهو صورة من صور الجنة، ومثال من بهجة الفردوس، حيث لا حساب ولا حزن. لا مساءلة ولا أسى. لا عتاب ولا كدر. فقط محبة تُوزّع بعدل، وحديث يُلقى بسكينة، وكلام يُقال بطمأنينة.
اجعلوا هذا اللقاء ديمومة... لا طارئة. اجعلوه إرثًا خالدًا، وتركة باقية، وسُنّة طيبة تسري في عروق العائلة كالدعاء الطيب في جوف الليل. لنجعل هذا اللقاء مساحةً للنية الصادقة، والتذكير بأن العائلة لا تُبنى فقط بالدم، بل بالترابط الدائم.
فليكن لقاؤنا الأسبوعي عهدًا لا ينكسر، مثل المطر يعود في موعده لينعش الأرض العطشى، ومثل القمر يُذكّرنا أن النور ممكن حتى في ظلام الأيام، فلنلتقي لا لأننا نحتاج، بل لأننا لا نكتمل إلا ببعضنا، فالعائلة أبعد من أن تكون مجرد دمٍ يتدفق في العروق، بل هي نورٌ يتدفق في القلوب.
من هنا نبدأ... خطوة باتجاه بعضنا، لنلملم الشتات بيدي المحبة، ونستعيد تلك الطمأنينة التي لا يمنحها العالم الصاخب، بل يمنحها دفء "أهلنا". فلنبدأ معاً، لأن هذه الخواطر تتعدى حدود كونها مجرد حبرٍ على ورق، بل بذورٌ نزرعها اليوم في تربة الوقت، لتنمو غداً شجرةً عظيمة تظلل الأجيال القادمة بفيء الحب والذكريات، ولتكن كلماتنا هذه بداية العهد، وليكن حبنا - الذي ينبت من قلب العائلة - جذوراً تمتد عبر الزمان، ترويها لقاءاتنا الأسبوعية، وتثمر أماناً وارتباطاً لا ينقطع.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق