حين يولد النور من بطن الانكسار!
في حياة كل إنسان لحظة لا تُدوّن في السجلات، ولا تلتقطها الكاميرات، لحظة يبدو فيها كل شيء منطفئًا، والروح متعبة، والضوء يزحف بخجل على أطراف يومٍ مهزوم.
نحن، المرهقون من الحياة، حين نمر بتلك اللحظة العابرة التي لا يلتقطها الزمن بسهولة، نهمس للوجع بصوت لا يسمعه سوانا: لم نعد نملك شيئًا نقدّمه، ولكن، ما الذي يحدث بعد ذلك؟ هل ننكسر للأبد، أم أن في داخلنا شيئًا لا نعرفه إلا حين نُجرّد من كل ما نملك؟
وحين طال الصمت أكثر مما ينبغي، لم نجد سوى الاعتراف وسيلةً نكمل بها هذا الانحدار البطيء نحو الداخل.
اعترفنا له، بصمت لا يسمعه سوانا، أنه نجح في سرقة أجمل ما فينا. تلك البهجة العابرة، وتلك النظرة المليئة بالدهشة، وتلك النبضات التي كانت ترقص في صدورنا حين نحب، أو نأمل، أو نخطئ بقصد الطفولة. لم يكن الألم، حينها، مجرد شعور عابر، بل كائن يسكن الجسد بثقل لا يُحتمل، كغيمة رمادية تستوطن القلب وتُبقي السماء معلقةً فوقنا بلا مطر.
كانت لحظة الانهزام هادئة كخيانة ناعمة، تسللت إلى داخلنا دون أن تصدر صوتًا، بينما الأرواح تئن في صمتٍ كأنها تعتذر للزمن عن هذا الضعف المفاجئ، عن انكسار لم يُخطط له ولم يُستأذن. جلسنا ذات وجع نُتمتم لأنفسنا: لقد سرق الألم أجمل ما فينا، بهدوء، ورضا عجيب، كأننا فتحنا له الباب بأيدينا، ثم بكينا خلفه بصوت خافت لا يسمعه أحد، لكن الصمت لا يبقى صامتًا إلى الأبد.
ومع هذا الاعتراف المرير، خرج سؤال موجع من الأعماق: هل ستشفى أرواحنا المثقلة يومًا؟ أم سترحل وهي تحمل عبء التعب، كحقيبة لم يُفتح قفلها منذ سنين؟
الاعتراف بالوجع لا يعني الضعف، بل هو أول خطوات الشفاء. والوعي، حين يفتح عينيه، لا يعود يغفو بسهولة. ربما لن يُعيد لك كل ما سُرق، لكنه يمنحك فرصة جديدة لصناعة ما هو أجمل، وأصدق، وأنتجه من أعماق التجربة.
بدأ كل شيء من تلك اللحظة. لحظة سكون ظاهري، تعج داخله آلاف الأسئلة التي تنهش الروح. هل سنُشفى يومًا؟ هل تعود إلينا أرواحنا كما كانت، طازجة، خفيفة، قادرة على أن تحلم؟ أم أننا سنرحل ذات مساء ونحن نحمل على ظهورنا عبء التعب المتراكم كأثقال لا تُرى ولكن تُشعر؟
في هذا العمق الرمادي، استوى الاستسلام. لم يعد الألم مجرد ضيف ثقيل، بل أصبح مقيمًا له غرفة في صدورنا، ووسادةً مبللةً من شتاتٍ قديم. لم نعد نحاول طرده، بل بدأنا نهيئ له المكان، نُطفي الأنوار ليرتاح، ونغلق الأبواب كي لا يرحل.
كان ذلك الاستسلام يتشكل تدريجيًا، لا كقرار واعٍ، بل كهروب مستمر من المحاولة. كأننا كففنا عن الحلم، عن الترقب، عن الحديث عن الغد، لأن الغد بات يشبه اليوم، وأحيانًا أسوأ. كنا نطفئ الأضواء داخلنا واحدًا تلو الآخر، حتى صرنا نعيش في الداخل كمن يسكن بيتًا مظلمًا لا نوافذ فيه.
لكن شيئًا ما حدث. شيء لا يُرى، لا يُلمس، ولا يُشرح بسهولة. ربما كان هذا الاعتراف نفسه، هذا البوح الخافت الذي لم يسمعه أحد، هو ما أشعل أول شرارة. وكأن النفس، في لحظة صدق مع ذاتها، ترفض فجأة أن تغرق دون محاولة. وكأن في داخل كل منا فطرة سليمة، وإن كانت مغطاة بطبقات من الغبار والخذلان، لا تزال تتنفس وتتنصل من السقوط.
لكن المفارقة العظيمة أن الاعتراف بهذا كله، لم يكن ضعفًا. بل كان لحظة صدق عارية، لحظة انكشاف داخلي، كشفت لنا شيئًا ظل ساكنًا خلف الستار: الفطرة التي لم تخمد بعد، الشعلة الصغيرة التي ما زالت تقاوم، ترفض الانطفاء الكامل. كأن شيئًا فينا قال: لا، لم تنتهِ بعد.
كُشف الغطاء، لا على الدنيا، بل علينا. رأينا فجأة، وسط رماد الهزيمة، أدوات داخلية كنا نجهلها أو نتجاهلها. لم تكن خارقة، لم تكن صاخبة، لكنها حقيقية. الإرادة، تلك الصغيرة التي كنا نظنها غادرتنا، رفعت رأسها قليلاً. الصمود، المرهق من كثرة الاختبارات، أزاح الغبار عن ملامحه. الأمل، المنسي في زوايا الذاكرة، أطلّ كطفل فقد أمه ووجدها بعد طول بكاء. والوعي... الوعي الذي طالما تجنبناه لأنه مؤلم، صار كمرآة لا تكذب، تُظهر لنا وجوهنا كما هي، لا كما ندّعي.
لكن فجأة، تغيّر كل شيء.
كأن شرارة خفية انبعثت من تحت الرماد. لم تكن صاخبة، ولم تُعلن عن نفسها، لكنها كانت حقيقية. ذلك الصدى الخافت في داخلنا، ذلك الإحساس بأن ما تبقّى لا يزال يستحق أن يُنقَذ، كان بداية العودة. وبلا مقدمات منطقية، بدأنا نرى ما لم نكن نراه: إرادتنا لم تكن ميتة، بل نائمة، ووعينا لم يكن غائبًا، بل مبللًا بغبار الخوف والتعب. شيئًا فشيئًا، بدأت تتجلى أمام أعيننا أدوات دفينة، أدوات لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُولد مع الإنسان وتنتظر استدعاءها عند الحاجة: الإرادة، الصمود، الأمل، الوعي، والدافع.
من هذه الأدوات، بُني أول حجر في طريق المقاومة. طريق ليس معبّدًا، بل مليء بالحفر والارتباك، لكننا مشينا. ربما ارتجفنا، ربما عدنا خطوة إلى الوراء، لكننا لم نسقط مجددًا بنفس الطريقة. كل نبضة صغيرة أصبحت إعلانًا داخليًا: لست منتهيًا بعد.
بدأ الوعي يستيقظ، لا كفكرة مثالية، بل كغريزة للبقاء. أن تدرك أن الهزيمة ليست نهاية، بل رسالة. أن ترى في مرآة الألم ملامحك الأصلية، وأن تملك الشجاعة لتسأل نفسك بصوتٍ صادق:
هل هذه هي النسخة التي أقبل أن أكونها؟
هل سأسلّم كل ما تبقى، أم أقاوم بصمتي، وأبني من حطامي جسورًا جديدة؟
بدأت تتكسر مفاهيم اليأس، لا بضجة، بل بتمرد هادئ. تمرد لا يشبه الثورة، بل يشبه الحياة حين ترفض الموت في جسد ما زال يتنفس. عادت إشراقة الفطرة، لا كضوء ساطع، بل كشمعة لا تنطفئ مهما حاولت الريح. هذه الفطرة التي خُلقت فينا، والتي كانت دومًا تميل للنجاة، أعادت رسم ملامح الطريق.
إننا، حين نعترف بألمنا، لا ننهزم، بل نبدأ. حين نبوح، لا نضعف، بل نتحرر. لأن أعظم المعارك لا تُخاض على أرض الواقع، بل في تلك اللحظة بين أن نغرق أو نطفو، بين أن نختار الحياة رغم ثقلها، أو نودعها بصمت لا يليق بنا.
ولعل أعظم التحولات لا تحدث حين ننتصر، بل حين ننهار ونقرر ألا نستسلم. ففي لحظة الوعي المتأخر، ندرك أن الألم لم يكن عدوًا دائمًا، بل معلمًا قاسيًا أهدانا دروسًا لا تُنسى. تعلمنا أن الضعف لا ينفي قوتنا، بل يثبت أننا بشر، وأن الاعتراف بالسقوط ليس نهاية، بل بداية لقيام أكثر وعيًا.
هكذا، شيئًا فشيئًا، نستعيد ما ظننا أننا فقدناه إلى الأبد. نرى في أعيننا انعكاس ملامح لم نكن نعرفها؛ وجوهًا تحمل الصبر، والكرامة، وماضٍ لم يكن كله هزيمة، بل كان طريقًا مبللًا بالدمع كي نعرف طعم النور حين يأتي. ونتلمّس معالم مسار جديد لا يطلب منا أن نكون خارقين، بل صادقين مع ألمنا، قادرين على مواجهته لا الهرب منه. مسار نرتكب فيه الأخطاء، ونتعثر، ونبكي، ولكننا نستمر، لأن استمرارنا وحده، هو الرد الوحيد الجدير على كل خيبة.
نصير أكثر صدقًا مع أنفسنا، وأقل قسوة على ما مررنا به. نتصالح مع وجعنا كما لو كان شريكًا سابقًا علمنا الحب والخسارة، ثم رحل.
نقف بعدها لا كما كنا، بل كما يجب أن نكون: أكثر إنسانية، أكثر شجاعة، وأكثر صمتًا أمام ضجيج العالم، لأننا سمعنا الصوت الحقيقي من الداخل.
كم مرة شعرنا أننا انتهينا، ثم عدنا؟
كم مرة حسبنا أننا سقطنا إلى القاع، فإذا بالقاع ذاته يدفعنا لأعلى، لأنه لم يعد هناك ما نخسره؟
ربما كل ما نحتاجه، في لحظات الانكسار، هو أن نُصغي لذلك الصوت الصغير في الداخل، الذي لا يزال يؤمن بنا، رغم كل شيء. أن نمنح أنفسنا فرصة جديدة، لا لأننا أقوياء، بل لأن فينا شيئًا لا يُقهر... شيء لم يُهزم بعد.
وفي النهاية، لا شيء يظل كما هو بعد أن تمرّ بنا العاصفة. وحدهم الذين حاوروا انكساراتهم بصدق، يستطيعون التحديق في أعين الحياة دون أن يرمشوا، لأنهم عرفوا أن النور الحقيقي... لا يولد إلا من بطن الانكسار.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق