لغة القلوب الصادقة!
في زحمة الكلمات التي تملأ العالم، تظل هناك لغة أخرى تنساب بصمت، لا تحتاج إلى حروفٍ تُنقش ولا إلى جملٍ تُلقى، بل تكفي فيها نظرةٌ تفيض دفئًا، أو لمسةٌ تحمل في رقتها كل ما يعجز اللسان عن قوله!، إنها لغة القلوب الصادقة، التي لا تُكتب بالحبر، بل بالروح، ولا تُقرأ بالعين، بل بالوجدان!، هنا، حيث تنطق المشاعر قبل أن تترجمها الكلمات، يصبح الصمت أبلغ من الخطابة، والحدس أصدق من التحليل.
فهذه اللغة لا تنشأ من العقل الواعي الذي يحسب كل كلمة، بل من ذلك العمق الإنساني الذي لا يعرف التزييف، إنها تنبثق كما ينبثق النور، بلا تكلّف، وكما تهب النسمة، بلا ترتيب!؛ حين يبتسم الطفل لأمه، أو حين يمسك الحبيب يد حبيبه في صمت، لا يوجد هناك منطقٌ يشرح اللحظة، ولا معادلةٌ تحللها!، هناك فقط قلبٌ يخفق فيرسل نبضاته إلى قلبٍ آخر، فيفهم دون تفسير.
وفي هذه اللغة الساحرة، لا تقتصر المفردات على النظرات واللمسات، بل تمتد إلى كل ما هو حسيٌّ نقيّ، فَنَبْرَةُ الصوت الهادئة التي تقول "أنا هنا" دون حروف، والإيماءة الرقيقة التي تحمل في طياتها كل العناية، وحتى ذلك الصمت الدافئ الذي يكون أحيانًا مثل حضنٍ غير مرئي!؛ كلها حروف في أبجدية لا تحتاج إلى معجم، لأنها تُفهم بالغريزة قبل أن تُترجم بالعقل.
والصدق هنا ليس مجرد قول الحقيقة، بل هو أن تكون أنت بكلّ ما تحمل من ضعفٍ وقوة، من فرحٍ وحزن، فحين نجرؤ على إظهار هواجسنا دون قناع، نخلق جسورًا من الثقة لا تهزّها رياح الشك!؛ والتسامح حينئذٍ لا يكون مجرد كلمة، بل لغةٌ أخرى من لغات القلب، تقول: "أنا أرى جرحك، وأختار أن أضمده بالمحبة لا بالانتقام"، حتى الامتنان يصبح نورًا يضيء العلاقات، حين نعترف بقيمة الآخرين ليس بالكلام وحده، بل بذلك الشعور العميق الذي يلمس قلوبهم قبل آذانهم.
وما أجمل تلك اللحظات التي تذوب فيها الحواجز بين البشر، فلا يهمّ بعد ذلك اختلاف اللغات أو الثقافات، لأن القلب يعرف طريقًا آخر إلى القلب!؛ قد تكون التكنولوجيا قد قرّبت المسافات، لكنها أحيانًا أبعدت النفوس!، فكم من رسالةٍ مليئةٍ بالرموز لا توصل دفئًا مثل حضنٍ واحد؟ وكم من محادثةٍ طويلةٍ لا تعمق الصلة مثل صمتٍ مشتركٍ يفهمه الطرفان؟
في العلاقات، سواءً كانت عائليةً أو صداقةً أو حبًا، تختلف مفردات هذه اللغة، لكن جوهرها واحد: أن نكون حاضرين بكلّ أرواحنا. أن نسمع ليس لنردّ، بل لنفهم. أن نتحدث ليس لنُظهر ذواتنا، بل لنشاركها، وحتى في خضمّ الخلافات، تبقى لغة القلب هي الجسر الذي لا ينهار، لأنها تذكرنا دائمًا بأن ما يجمعنا أقوى مما يفرّقنا.
وفي النهاية، قد لا نجد كلماتٍ كافيةً لوصف سحر هذه اللغة، لأنها ببساطةٍ... نورٌ يُضاء في الداخل، فينعكس على كلّ شيءٍ حولنا. فلنحاول أن نكتب حياتنا بها، كلمةً كلمة، ولوحةً لوحة، حتى تصير كلّ لحظةٍ قصيدةً لا تحتاج إلى شرح.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق