الرجل الذي يتحدث باسم الصمت!
ليس كل من أمسك ميكروفونًا صار لسان مؤسسة، وليس كل من وقف أمام الكاميرا كان جديرًا بأن يُنصت له، ففي مكان ما، خلف الأبواب الزجاجية لمبنى أنيق، يجلس رجل لا يُطلب منه أن يبتكر، بل أن يشرح، لا أن يُقنع، بل أن يُطمئن، لا أن يُجادل، بل أن يُمثل!، هذا هو المتحدث الرسمي، الرجل الذي يتحدث حين تصمت المؤسسة، ويصمت حين يعلو ضجيجها.
يبدو في ظاهره أنه مجرد همزة وصل بين الشركة والعالم، صوت يخرج من فمها ليخاطب الناس، أو يجيب عن أسئلة الصحفيين، غير أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، إنه صانع انطباعات، مهندس إدراك، وخبير في تقديم الواقع وكأنه مُختار بعناية من أجل الكاميرا!؛ حين يُجيد عمله، يصبح المؤسسة في عيون الآخرين، وحين يُخفق، لا ينهار هو فقط، بل تتهشم معه صورة الجهة التي يمثلها.
في أزمنة الأزمات، يصبح حضوره ضرورة لا ترفًا، فبينما يتعثر الآخرون في دوامة العتب والتبرير، يقف هو ليعيد ترتيب فوضى اللغة!، لا يتهرب من النقد، بل يحوّله إلى طاقة دفاع ذكية!، لا يبرر القصور، بل يعيد تأطيره بلغة أقل قسوة؛ لا يُجمل الخطأ، بل يرويه من زاوية تُظهر حسن النية، أو نية الإصلاح، وهنا يكمن الفرق بين من يرى المتحدث الرسمي كوظيفة، ومن يدركه كفن.
لكن، من أين يأتي هذا المتحدث بمواده الخام؟ هل يجمع معلوماته من اجتماع صباحي؟ أم تُغذيه غرف التسويق والعلاقات العامة ببيانات جاهزة؟ وهل يكفي أن يُدرب على فن إدارة المؤتمرات والرد على الأسئلة الصعبة ليكون جاهزًا؟ أم أن وراء صوته ألف صوت من المستشارين والخبراء الذين يكتبون، يراجعون، ويحسبون كل كلمة وكأنها سهم قد يرتد؟ الحقيقة أن ما نراه على المنصة ليس إلا رأس جبل الجليد.
إنه لا يُقاس فقط بما يقوله، بل بكيف يقوله، فالمتلقي ليس ساذجًا، والجمهور لا يرحم. لو تحدث وكأن كل شيء على ما يُرام بينما يعرف الجميع أن الأمور ليست كذلك، سيفقد احترامه، ولو أقرّ بكل تقصير دون محاولة تهدئة النفوس، سيفقد السيطرة!، عليه أن يمشي على حبل مشدود بين الصدق واللباقة، بين الشفافية وحماية المؤسسة، بين الواقعية والطمأنة، وكل هذا، بصوت واثق، ووجه لا يرتبك.
بعض الشركات تراه مجرد منصب، وبعضها تفهم أنه استثمار، ففي عالم اليوم، حيث تنتقل الأخبار أسرع من خطوات التراجع عنها، يصبح المتحدث الرسمي خط الدفاع الأول!، وجوده ضرورة، واختياره فن، وإعداده علم، واستمراره رهان على الذكاء.
وإذا كان المتحدث مجرد مكرر للبيانات، فهو عبء، أما إذا كان موهوبًا، يمتلك الحضور، ويعرف متى يصمت ومتى يبتسم، متى يواجه ومتى يمرر، فإنه لا يُقدر بثمن!، هو رجل يقف على مسرح الجمهور، ممسكًا بنبض مؤسسة كاملة في كفه، ويخفي في جيبه نصوصًا لا تُقرأ، لكنها تُفهم، وتُحس، وتُستبطن.
وفي النهاية، هو ليس مجرد صوت... إنه موقف، والموقف لا يُدرّس، بل يُبنى. خطوة بخطوة، وكلمة بكلمة، أمام جمهور لا ينسى.
هنيئًا لتلك المؤسسة التي تحسن اختيار من يتحدث باسمها، وتستثمر في موهبته كما تستثمر في منتجها ومصداقيتها، فوجود هذا الرجل ليس رفاهية إعلامية، بل هو ضرورة استراتيجية، وخط دفاع ناعم وقوي في آنٍ معًا، وهو مرآة تعكس نضج المؤسسة، وصوت يدل على وعيها، وإن لم يكن موجودًا أو لم يُحسن تأهيله، فإن الصمت حينها قد يكون أعلى تكلفة من أي خطأ، فالبحث عن مثل هذا المتحدث ليس خيارًا... بل حكمة تستحق السعي.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق