حين يتسلّقون على الحق: صرخة في وجه الزيف!
في زوايا الصمت، حيث يظن البعض أن الكرامة صدى قديم لا يُسمع، يعلو صوت لا يطلب مجدًا ولا منصبًا، بل يطلب أن يُفهم. صوت وُلد من الغضب، لا ذاك الغضب الأرعن الذي يحرق، بل الغضب النبيل، الذي يُضيء. الغضب هنا ليس من جرحٍ شخصي، ولا من ظنٍّ بأن الجميع على خطأ، بل من فئة صغيرة تتحدث باسم الحق وكأن الحروف لا تُكتب إلا بأسمائها، فتشوّه الفهم وتعلو على الآخرين بادعاءٍ لا يسنده جوهر.
هذا المقال لا يزعم امتلاك الحقيقة، لكنه يعبّر عن غضب لا يمكن كتمه، وصوتٍ أراد أن يُسمَع قبل أن يُطفأ، إنه أقرب لصيحة، وربما لطعنة نور في خاصرة العتمة.
لماذا يظنون أنهم أذكى من الطرف الآخر؟ ما الذي يجعلهم يعتلون النصوص كأنها عروش، يرمون من فوقها بأحكام مصبوبة في قوالب غرورهم؟ يتسلقون على الكلمات كمن يبحث عن علوٍّ زائف، يشيرون بأصابعهم: هذا مصيب، وهذا مخطئ، وكأنهم وحدهم وُهبوا سلطة القضاء على النوايا.
يرفضون النصيحة، ويطلّون من نوافذ لا تخصهم، يدخلون في شخصية غيرهم لا ليحتضنوها، بل ليحاكموها. وكأن هويتك مشروعهم، وكأن وجودك قابل للتعديل وفق ميزان نظرتهم الضيقة.
ينظرون إلى الآخر كفرصة للتسلق، لا ككائن يشاركهم الحياة. يترصدون اللحظة التي يمكن فيها أن يُسلّط الضوء عليه لا ليحتفوا به، بل ليبدؤوا في تفكيك أشرعة قواربه، تلك القوارب التي لم تكن للنجاة من أحد، بل كانت نجاة من الذات إلى الذات. ومع أنهم يدركون تمامًا أن مسارهم خاطئ، يواصلون العبور فيه، وكأن الحقيقة قد تُولد من عناد التكرار.
نحن نترفع، لا لأننا أضعف، بل لأننا نملك من القيم ما يجعلنا ندرك أن الطين يُمسك بالأقدام حين ندخله. لكنهم لا يرون مستوى أنفسهم، ولا أثوابهم الحقيقية. يتوهّمون أنهم أضواء، بينما هم في الحقيقة ثقوب تُهدر النور من حولها. يُصرّون على إشعال وهجٍ زائف، لا ليضيء طريقًا، بل ليُحرق كل من يقترب، وكأن الاحتراق هو الثمن المفروض للعبور نحوهم، وكأنهم لا يتوهجون إلا بإحراق غيرهم، ولا يرتفعون إلا على رماد من صدّق أن في وهجهم نورًا.
وهنا لا يكمن الخلل في فعلهم وحده، بل في الصمت الذي يحيط بهم، في العيون التي ترى وتشيح، وفي الأكف التي تصفق لا إعجابًا، بل هروبًا من مواجهة الحقيقة.
نقف عند حدود نبيلة، أعراف واضحة، خطوط لا تُمس، لكنهم يتجاوزونها، ثم يطالبون الآخرين بالتقيد بها، وفقًا لأحكامهم غير الناضجة، وتحليلاتهم المسيئة، وتصوراتهم المشوهة!، تلك التناقضات ليست مجرد رأي، بل أداة تخريب. الأخطر أنهم لا يعيشون في فراغ، بل حولهم جمهور، جمهور يصفق، يبرر، وربما يغض الطرف لا حبًا فيهم، بل خوفًا من الحق.
وهنا تبدأ المأساة!، من منحهم هذا الامتداد؟ من سمح لهم بالانتشار كأوبئة أخلاقية؟ من تركهم يعبرون دون أن تهب ريح توقف أشرعتهم؟ حين يشتبك الوهم بالحق أمام جمهور صامت، لا يصرخ، لا يحتج، لا يقف، فإن الوهم سينتصر، لكنه انتصار مجوّف، لا يُثمر، لا يبني، لا يترك أثرًا سوى الندم. سيبقى كالشجرة في الصحراء، ترفع أغصانها في الفراغ، تقاتل من أجل قطرة ماء، لا لتعيش، بل لتبقى في المشهد وحسب.
الغريب أن البعض منهم يغزو الحق بوجه المصلح، ويتكئ على المبادئ بينما يدوسها. أجسامهم ممتلئة على متن سفينة المجتمع، لكن السفينة لا ترحب بهم، وتعلم جيدًا نواياهم، وتخزّن همزاتهم ولمزاتهم، وتفاصيل خطابهم الخادع، لكنها لا تقطع الحبل، وكأن المجتمع صار شاهدًا لا يتدخل، يترك المسرحية تسير، حتى وإن انهار ستار المسرح على رؤوسهم.
إن الخطر لا يكمن في وجودهم وحدهم، بل في أولئك الذين يسكتون، الذين يظنون أن الحياد نجاة، وأن الصمت لا يُدين، وهنا نوجّه الصرخة: لا تساوموا على الحق، ولا تجلسوا في مقاعد الجمهور وأنتم تعلمون أن العرض زائف. أن تكون محايدًا أمام الباطل، يعني أنك تقف ضده، ولكن دون جرأة. أن تصمت في حضرة الفساد، هو أن تمنحه لسانك، وإن سكتّ.
احذروا من التصفيق الزائف، ومن الهتاف لمن لا يستحق، ومن دعم فكرة لمجرد أن القائل يملك جماهير. لا تدعموا إلا من اختبرته المواقف لا الشعارات، من وقف حين جلس الجميع، من قال "لا" حين ارتجف غيره، من كان ضوءًا حقيقيًا لا نيونًا مؤقتًا.
في النهاية، لسنا ضد أحد، بل مع ما يجب أن يكون. هذه ليست ثورة على الأفراد، بل على المفاهيم المعلبة، على التفوق المصطنع، على الزيف الذي يلبس ثوب الإصلاح. هذه صرخة للحق، ودعوة لكل من لا يزال يملك قلبًا حيًّا، أن لا يهادن، أن لا يُهادَن به، وأن يكون حيث يجب أن يكون: في صفّ الصدق، لا الصدى.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق