الجمعة، 2 مايو 2025

الإعلام كأثر لا كمنبر!


الإعلام كأثر لا كمنبر!

في عالم تزداد فيه الشاشات توهجًا، لا تعكس الصورة وحدها، بل تعكس من خلفها أعينًا تتعلّم، وأفواهًا تحكي، وقلوبًا تبحث عن أثر. الإعلام لم يعد حكرًا على من يملكون المايكروفون أو يجلسون أمام الكاميرا، بل صار لغةً يتقنها من يجرؤ على الحضور، ولو من خلف الستار. لم تعد القصة فقط فيما يُقال، بل في كيف يُقال، ومن الذي يجرؤ على قوله، ومن الذي يصدّقه الناس حين يتكلم.

هناك أصوات نضجت على وقع التجربة، تعرف جيدًا كيف تخفف من وطأة الفراغ بين الجملة والأخرى، وكيف يُلهم الصمت إذا جاء في وقته، وهناك عيون فتية، أنهت رحلتها في قاعات الدراسة، لكنها لم تبدأ بعد رحلة التحديق في الكاميرا!، بينهم، وبين أولئك الذين لم يحملوا شهادة ولا دخلوا استوديو، تنام مواهب تُوقظها النبرة الصادقة، وتُوقظها أكثر اليد التي تمتد نحوها لا لتوجّه، بل لتحتضن.

ما أجمل أن يتجاور النضج والفضول في مساحة واحدة؛ أن يتحدث من عرف الطُرق عن ضياعه فيها، ويصغي من لم يخطُ بعد، لا ليقلده، بل ليبني طريقه بما سمع وما شعر. لا أحد يتعلّم وحده. لا أحد ينجو وحده. كل ما نحتاجه أحيانًا ليس مدربًا، بل مشهدًا حيًّا نعيشه، وارتباكًا بسيطًا نشارك فيه، وحوارًا تتسع فيه النبرة لأكثر من صوت.

المواهب ليست بذورًا نزرعها، بل أحيانًا نيرانًا نخشى اقترابها، لكنها إذا وُضعت في مكانها، أضاءت للجميع. وبعض المواهب تختبئ في الظل لا لأنها تخاف النور، بل لأنها لم تجد من يدعوها إليه دون أن يصدر حكمًا، دون أن يشترط سابقة أو مسمى.

نحن بحاجة إلى فسحة يتجاور فيها الخائف والواثق، الطَموح والمجرب، القديم والجديد!، لا لنتبارى، بل لنتكامل!، لا لنقيس من هو الأفضل، بل لنفهم معًا ما الذي يجعل الكلمة تُحدث فرقًا، والصوت يبعث رجفة، والصورة تُلهم صمتًا عميقًا.

في زمن تتكاثر فيه المنصات، وتختلط فيه المعاني، لا بد من عودةٍ إلى الإنسان!، إلى جوهره الذي يحكي لا لأنه يملك معلومة، بل لأنه مرّ بالتجربة، وانكسر ثم نهض، وشكّ ثم آمن!، كلّنا في النهاية حكايات ننتظر من يعيد روايتنا بصوته، أو يوقظنا لنرويها بأنفسنا.

ربما لن يكون الإعلام يومًا مجرد مهنة؛ ربما كان وما زال مرآةً كاشفةً لمن نحن، ولما نخفيه حين نتكلم؛ في النهاية، ليس كل من يظهر أمام الكاميرا نجمًا، وليس كل من خلفها ظلًا!، بعض الظلال تعلمنا كيف نصبح نورًا، وبعض الكلمات تبني مجدًا لا يُرى في التصفيق، بل في الرجفة الصامتة التي تسبق الدموع.

ولأن الحلم الحقيقي لا يبدأ بتقليد، بل بإيمان، فإن المساحة التي نخلقها لمن يحملون شغفًا حقيقيًا، لا تكون ترفًا، بل ضرورة!، تلك المساحة التي لا نعلّم فيها فقط، بل نتعلّم، لا نعلو فيها على الآخر، بل نرتفع معًا.

وفي لحظة ما، حين يلتقي الطموح بالخبرة، والحلم بالمعرفة، والموهبة بالحاضنة، يولد شيء لا يُدرّس في الجامعات، ولا يُكتب في السِيَر الذاتية، لكنه يُرى في أعين الجمهور، ويُسمع في صمتهم، ويُحسّ حين يصبح الصوت رسالة، والحضور مسؤولية، والإعلام، أخيرًا، فعل حياة.

ولأني كنت يومًا بين أولئك الذين يقفون عند عتبة الكاميرا مترددين، ولأني رأيت وجوهًا يملؤها الشغف ولا تعرف من أين تبدأ، ولأني آمنت دومًا أن الموهبة لا تكفي إن لم تجد حضنًا يرشدها، كتبت هذا المقال لا لأشرح، بل لأُلمح، لا لأقدّم مشروعًا، بل لأحلم به جهرًا أمامكم. لعلّ الصوت يصل، ولعلّ اليد تمتد، ولعلّ الحلم يتحوّل إلى مساحة نعيشها، لا فكرة نتبادلها.

جهاد غريب 
مايو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نبض الأمكنة الخرساء!

  نبض الأمكنة الخرساء! في الوجع الخفيّ الذي تخبّئه الجدران، حيث تصير الذكرياتُ وشمًا وجدانيًّا على جبين المكان، تتكلم الأمكنةُ لغةَ الصمت حي...