رحلة في دهاليز
الفراغ والعدم!
العدم
والفراغ... الفراغ والعدم... ثنائية تبدو كأنها توأمان في فضاء المفاهيم، يتبادلان
الأدوار في العقل، ويتسللان إلى الوجود كظلّين للكينونة!، هل نحن نعيش في فراغ؟ أم
أن الفراغ يعيش فينا؟ وهل العدم هو الفراغ المطلق، أم أن الفراغ هو النصف الممتلئ من
كأس العدم؟ أسئلة تلتف حول ذاتها، وتخلق الدهشة، وتفتح أبواب التأمل. يقول الفيلسوف
الألماني هايدغر: "الوجود هو غياب الفراغ"، مما يعكس أن الفراغ هو الخلفية
التي تتشكل فيها الكينونة!، إن التأمل في هذا القول يقودنا إلى فهم أعمق لمعنى الفراغ،
فهو ليس مجرد خلوّ، بل هو ساحة الاحتمالات اللامحدودة، التي يتشكل فيها الوجود ويأخذ
معناه.
الفراغ
ليس مجرد مساحة خاوية!، بل هو حيز يزخر بالإمكانيات، وينتظر أن يُملأ بالحضور، وبالأفكار،
وبالحياة، إنه الصمت الذي يسبق النغم، والبياض الذي ينتظر الحروف، والسكون الذي يسبق
الحركة!، يقول جبران خليل جبران: "الفراغ هو مرآة تعكس أعماق الروح"، وكأن
الفراغ لا يعني الغياب بقدر ما يعني الاستعداد، والاحتمالية، والرغبة الدفينة في الامتلاء.
أما العدم،
فهو أعمق، وأكثر جذرية، إنه ليس فراغاً قابلاً للامتلاء، بل غياب مطلق، وفراغ بلا احتمالات!،
يقول جان بول سارتر: "العدم هو اللحظة التي نشعر فيها بالوجود الحقيقي"،
وكأنه يوحي بأن الوعي بالعدم يجعلنا ندرك معنى الوجود بشكل أكثر حدة!، العدم يطارد
الفكر، يجعل الإنسان يتساءل عن جدوى الأشياء، عن اللحظة التي ينتهي فيها كل شيء، لكنه
أيضاً قد يكون دافعاً للخلق، وللإبداع، وللبحث عن معنى وسط العدمية.
في
الحياة، يختبر الإنسان أنواعاً شتى من الفراغ: الفراغ العاطفي عندما ينزوي القلب
في انتظار نبض جديد، فيصبح كل شعور مؤجلاً، وكل لحظة ممتلئة بالحنين لما لم يأتِ
بعد. الفراغ المعرفي عندما يجهل الإنسان ما حوله، فيعيش في ظلال أفكار غيره،
متأرجحاً بين الوهم والحقيقة، وبين الشك واليقين. الفراغ الوجودي حين تتلاشى
المعاني، ويتحول الزمن إلى مساحات فارغة من الدهشة، حيث يصبح البحث عن جدوى الحياة
معركة يومية تستنزف الروح. الفراغ الاجتماعي عندما يصبح الغريب بين الناس أكثر
وحدة من العزلة ذاتها، إذ تغدو الحشود مجرد صدى أصوات لا تصل، ومجرد عيون تمر عليك
دون أن تشعر بوجودك، فيتساءل المرء: هل الوحدة هي غياب الآخر أم غياب الشعور
بوجوده؟ لكن العدم، على عكس ذلك، لا يترك مجالاً للانتظار أو البحث، إنه النقطة
التي تذوب فيها الأسئلة، حيث لا يبقى شيء ليُقال، ولا ظل ليُتبع، بل مجرد فراغ
ممتد بلا ملامح.
ومع ذلك،
نجد أن العلاقة بين الفراغ والعدم ليست علاقة تضاد بقدر ما هي علاقة تكامل!، فالفراغ
يشير إلى غياب شيء يمكن أن يوجد، بينما العدم هو الغياب الذي لا يتيح أي إمكانية، وكأن
الفراغ هو الممر الذي يقود إلى العدم، أو لعله الحاجز الذي يحمينا منه.
في الفراغ
يلتقي العدم بكل شيء، ليصبح العدم مرآة الوجود، إذ إن الوجود نفسه يبرز من رحم الفراغ،
والعدم يمنح الأشياء قيمة عبر غيابه!، الفراغ ليس مجرد غياب، بل هو عنصر جوهري في تشكل
المعنى، وهو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن الامتلاء والتواصل مع ذاته ومع العالم.
كيف نتعامل
مع هذا الفراغ الذي يتسلل إلى أعماقنا؟ البعض يملأه بالصخب، وبالمشاغل، وبالضوضاء كيلا
يسمع صداه في داخله، وآخرون يصادقونه، ويستثمرونه في التأمل، وفي البحث عن المعنى،
وفي خلق شيء جديد، أما العدم، فلا يُعاش، بل يُفهم، يُدرك، يُتأمل كحقيقة حتمية، كرفيق
صامت يذكرنا بحدودنا، ويحثنا على تجاوزها!، سبر أغوار الفراغ بأنواعه: متى يصيب الإنسان؟
هل يتعايش معه؟ أم أن هذا التعايش هو جزء من كل؟ وما دور العدم وارتباطه بالفراغ؟ وكذلك،
كيف يتعامل الإنسان مع هذا العدم؟
في
النهاية، الفراغ ليس عدواً، بل مساحة انتظار!، والعدم ليس هاوية، بل مرآة تعكس
هشاشتنا، وبين الاثنين، تتأرجح الكينونة، باحثة عن لحظة امتلاء، أو عن شعاع يبدد
العتمة، أو عن هدوء يجعل الصمت أكثر وضوحاً. ففي العدم والفراغ، نجد أنفسنا، وعبر
تأملنا فيهما نكتشف حقيقتنا، ليصبحا بوابة نحو وعي أعمق بذواتنا، ومفتاحاً لفهم
أعمق للحياة، حيث لا يكون الغياب مجرد نقص، بل إمكانية لصياغة وجود أكثر إدراكاً
ومعنى.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق