الثلاثاء، 4 مارس 2025

 

الحقيقة بين الوهم واليقين: رحلة في متاهة الافتراضات!

 

نحن نحيا في عالم مليء بالافتراضات، تلك الأفكار التي نبنيها على ما نعرفه أو نظنه صحيحاً، لكن هل فكرت يوماً في مدى تأثير هذه الافتراضات على نظرتنا للحقيقة؟ في الواقع، قد تكون الحقيقة نفسها مجرد تراكم للافتراضات التي صمدت أمام الاختبار، أو تلك التي لم نشكك فيها بما يكفي. الحقيقة ليست سوى ظل لما نعتقده، وهم يتشكل عبر عدسات وعينا، كما قال نيتشه: "ليس هناك حقائق، بل فقط تأويلات".

 

نحن نسير وفقاً لافتراضات لا ندركها، نفترض أن الشمس ستشرق غداً، وأن الذين نحبهم سيظلون بجانبنا، وأن الكلمات التي نسمعها تعني ما نظن أنها تعنيه!، والافتراضات تشبه المرايا المشوهة، تعكس لنا الواقع كما اعتدنا رؤيته، لا كما هو!، عندما نرى شخصاً متجهم الوجه، نفترض أنه غاضب، لكنه قد يكون مرهقاً أو غارقاً في أفكاره، أو ربما يحمل في قلبه قصة لم نجد الوقت لسماعها.

 

في العصور الوسطى، كان الناس يؤمنون بأن الأرض مسطحة، لم يكن ذلك مجرد اعتقاد، بل افتراض راسخ لم يشكك فيه أحد حتى جاء من ينظر إلى النجوم بعين مختلفة، ويهز هذا اليقين المتوارث، وهكذا، لا تكون الافتراضات مجرد أوهام شخصية، بل قوالب فكرية تصنع واقعاً نحياه دون أن ندرك أنه قد يكون مصنوعاً من وهم عتيق.

 

الحقيقة ليست معطى ثابتاً، بل بناء يتشكل من الافتراضات التي ننساها بمرور الزمن، ونحن نظن أننا نعرف، لكننا في الحقيقة نجمع أجزاء مبعثرة من قصص نُسجت قبلنا، ونرتبها لتناسب سرديتنا الخاصة!، تماماً كما تتغير خرائط المدن بمرور العصور، تتغير أيضاً خريطة مفاهيمنا عن الحقيقة.

 

قد نكون على يقين اليوم مما سنسخر منه غداً، مثلما قال سقراط: "كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئاً"، فإن إدراك جهلنا هو الخطوة الأولى لفهم الحقيقة!، فالحقيقة ليست نهراً يجري في مجرى ثابت، بل أمواج متغيرة، تقودنا تارة إلى شواطئ اليقين، وتغرقنا تارة أخرى في دوامات الشك.

 

لكن كيف نفرق بين الافتراضات والحقيقة؟ وكيف نتجنب الوقوع في فخ التصديق الأعمى؟ التحقق من المعلومات، والبحث عن مصادر موثوقة، والتفكير النقدي هي أدواتنا في هذا العالم المتغير!، أحياناً، تكفي لحظة تأمل بسيطة لنهدم بناءً من الافتراضات التي سكنّاها طويلاً، نحن بحاجة إلى النظر إلى العالم بعين المتشكك الذي لا يقبل الأمور كما تبدو، بل يبحث عن الأدلة، يتقصى الحقائق، ويعيد تقييم ما يراه.

 

في العلاقات اليومية، نحن أسرى لافتراضاتنا!، نفترض أن الصمت يعني اللامبالاة، وأن الغياب دليل على النسيان، وأن الابتسامة تخفي نية خبيثة، لكن ماذا لو كانت كل هذه مجرد انعكاسات لمخاوفنا الداخلية؟ نحن لا نرى الحقيقة كما هي، بل كما نحن!، نظن أننا نقرأ وجوه الآخرين، لكننا في الواقع نقرأ مخاوفنا وانكساراتنا.

 

قد تكون الكلمة التي فسّرناها على أنها جفاء مجرد تردد عابر، وقد يكون البعد الذي حسبناه تجاهلاً هو في جوهره رغبة في الاقتراب، ولكن بطريقة مختلفة، ولهذا، فإن التحيزات المعرفية تتسلل إلى وعينا دون أن نشعر، وتجعلنا نصدق ما نريد تصديقه فقط، كما يقول جورج أورويل: "أخطر ما يمكن أن يحدث للحقيقة هو أن تختلط بالأكاذيب التي نرتاح لها".

 

حتى في العلوم، ليست الافتراضات إلا نقطة انطلاق!، قوانين نيوتن بدت حقائق لا جدال فيها حتى جاءت النسبية وأعادت رسم خريطة الفهم، لتخبرنا أن كل يقين قد يكون مؤقتاً!، نحن نتقدم حين نشك، وحين نعيد النظر، وحين نتساءل عن كل شيء!، كل فرضية علمية تبدأ كافتراض، وكل حقيقة كانت ذات يوم فكرة مشكوكاً فيها!، ما يبدو مؤكداً اليوم قد يتغير غداً، وهذا هو جوهر المعرفة: أنها في حالة تحول دائم.

 

الشك المنهجي، كما وصفه ديكارت، ليس رفضاً للحقيقة، بل سعياً نحوها، إنه نار تحرق الزيف، وتكشف ما يستحق البقاء. قال ريتشارد فاينمان: "لديك مسؤولية أن لا تخدع نفسك، وأنت أسهل شخص يمكن خداعه".

 

في النهاية، نحن أسرى افتراضاتنا، لكننا نملك المفتاح للخروج!، ويكفي أن نتساءل: هل هذا ما هو عليه حقاً، أم مجرد ما اعتدت أن أراه؟ فالحقيقة ليست وجهاً واحداً، بل متاهة من الاحتمالات، نكتشفها كلما امتلكنا الشجاعة لنسأل، ولنتأمل، ولنتحرر من يقين هشّ صنعناه بأنفسنا.

 

إن قدرتنا على التشكيك ليست ضعفاً، بل فضيلة!، كل حقيقة كانت يوماً ما مجرد فرضية، وكل يقين وُلد من سؤال!، والحقيقة، في جوهرها، ليست شيئاً نمتلكه، بل رحلة لا تنتهي، نسير فيها لا لنصل، بل لنفهم أكثر، ونرى العالم بعيون متجددة، بلا قيود الافتراضات التي كانت تسجن وعينا.

 

جهاد غريب

مارس 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...