رحم المستحيل: بين وهم العجز وميلاد الأمل!
في قلب اللغة، حيث تلتقي الكلمات
بالمعاني وتنصهر الأحرف في بوتقة المشاعر، تبرز عبارة "رحم المستحيل"
كأنها لوحة فنية مرسومة بألوان الألم والأمل!، ليست مجرد عبارة، بل عالم مليء
بالتناقضات، حيث يولد الألم من رحم المستحيل، ويولد الأمل من رحم المعاناة، لكنها
تثير تساؤلات تستحق التأمل: لماذا يرتبط المستحيل بالمعاناة؟ ولماذا يولد الأمل من
رحم الألم؟ هل هي مجرد مفارقة لغوية أم فلسفة وجودية؟ قبل أن نغوص في الإجابة،
دعونا نستكشف كيف يتجلى هذا المفهوم في واقعنا الإنساني.
المستحيل، ذلك الظل الذي يرافق
الطموحات الجريئة، دائماً ما يُصوَّر كعدوٍّ لدود، كسجنٍ بلا مفاتيح، كجدارٍ لا
يُهدم، لكن الغريب أن هذا المستحيل، الذي يبدو مطلقاً، يتحوَّل في لحظة ما إلى
رحمٍ للحياة، إلى نقطة انبثاقٍ جديدة. لا يُقال عن المستحيل إلا إذا وُجدت
المحاولة، ولا يُقال عن المحاولة إلا إذا وُجدت الرغبة، وهكذا تتشابك الفكرة، حتى
يبدو لنا أن المستحيل ليس أكثر من مساحة ضيقة يسكنها الخوف، وأن ما بعده ليس سوى فضاء
فسيح ينتظر من يخطو إليه.
هنا يثور تساؤل آخر: لماذا يُقال إن
الأمل يولد من رحم المستحيل، وكأن لا طريق للضوء إلا عبر العتمة؟ كأن الألم ضرورةٌ
لاكتمال أي إنجاز، وكأن الطريق الأملس لا يفضي إلى وجهة ذات قيمة. هل نحن أسرى
لهذه الفكرة، أم أن الأدب والفلسفة والتجربة البشرية كلها تقودنا إلى هذه الصورة
المتكررة؟ لا شك أن المعاناة تترك أثرها، لكن هل من العدل أن نجعلها الطريق
الوحيد؟ لماذا لا يولد الأمل من رحم الطمأنينة؟ لماذا لا يكون المستحيل ذاته وهماً
لم يخلق يوماً إلا في عقولنا؟
لفهم أعمق لهذا المفهوم، يمكننا القول
بأن "رحم المستحيل" ليست مجرد استعارة، بل هي حكاية إنسانية طويلة، تروي
كيف أن الإنسان، في سعيه الدائم لتحقيق ما يبدو مستحيلاً، يمر بمراحل من الألم
والمعاناة!، وهذا الرحم، الذي يبدو قاسياً في بدايته، يحمل في داخله بذور الأمل،
فالمستحيل، بكل ما يحمله من تحديات، يصبح أرضاً خصبة لزراعة الإرادة والإصرار،
والمعاناة، التي تبدو وكأنها نهاية الطريق، تتحول إلى بداية جديدة، حيث يولد الأمل
من رحمها، كفراشة تخرج من شرنقتها.
ولكن لماذا نربط المستحيل بالألم؟ هل
لأن تحقيق المستحيل يتطلب جهداً فوق العادة، أم لأن الطريق إليه محفوف بالمخاطر؟
ربما لأن المستحيل، بطبيعته، يمثل تحدياً كبيراً للإنسان، مما يجعله يشعر بالألم
أثناء محاولة تجاوزه، ولكن، في النهاية، هذا الألم هو ما يجعل تحقيق المستحيل ممكناً،
فبدون الألم، لن يكون هناك إحساس بالإنجاز، وبدون المعاناة، لن يكون هناك أمل.
الأمل، الذي يولد من رحم المعاناة، هو
بمثابة الضوء الذي يظهر في نهاية النفق!، وهو القوة التي تدفع الإنسان إلى
الاستمرار، حتى عندما تبدو الظروف قاسية!، ليس مجرد شعور عابر، بل هو إيمان عميق
بأن ما بعد الألم سيكون أفضل، وهو ما يجعل الإنسان يقبل على التحديات ويواجه
المستحيل، لأنه يعلم أن في النهاية، سيكون هناك أمل.
لكن، ماذا عن أولئك الذين يرفضون ربط
المستحيل بالمعاناة؟ هل يمكن أن يكون هناك مستحيل دون ألم؟ ربما يكون الجواب أن
الألم والمعاناة هما جزء من رحلة تحقيق المستحيل، لكن ليس بالضرورة أن يكونا
النهاية، فالإنسان، بقدرته على الإبداع والابتكار، يمكن أن يجد طرقاً لتجاوز
الألم، أو حتى تحويله إلى قوة دافعة، وهنا، يصبح الألم ليس عقبة، بل محفزاً لتحقيق
ما هو أكبر.
ومن هذا المنطلق، تكمن المفارقة في أن
المستحيل، حين يُهزم، لا يكون قد زال من الوجود، بل يكون قد انكشف على حقيقته!، لم
يكن مستحيلاً، كان صعباً، كان مجهولاً، كان يتطلب وقتاً، لكنه لم يكن جداراً أبديّاً
كما توهَّمنا!، المستحيل، إذاً، لا يولد منه الأمل، بل الأمل هو الذي يقتله،
يفكِّكه، يحوله إلى خطوة إضافية في طريق لم يكن واضحاً من قبل، ربما لهذا السبب
كان الحديث عن "رحم المستحيل" يختزن قدراً من التناقض، فهو ليس رحماً،
بل متاهة، ليس مكاناً يولد منه شيء، بل مكاناً يضيع فيه كل شيء حتى يأتي من يضيء
الطريق.
والمعاناة؟ لماذا يجب أن تكون جزءاً
من الحكاية؟ ربما لأنها الأكثر لفتاً للانتباه، لأنها الصوت الأعلى وسط الهدوء،
لكن في الحقيقة، الإنجازات لا تحتاج إلى الألم بقدر ما تحتاج إلى الإدراك، إلى
الصبر، إلى القدرة على رؤية الأشياء من زاوية أخرى، فالمعاناة ليست ختماً للعبور،
وليست معياراً للجودة، إنها أثر جانبي، تحدث أحياناً، لكنها ليست القانون.
ربما علينا أن نعيد تعريف الصورة!،
رحم المستحيل ليس أرضاً للألم، بل مساحة للدهشة، للبحث، للانكشاف!، والأمل لا يولد
من المعاناة، بل من المحاولة، ومن الشجاعة، ومن القدرة على رؤية ما خلف الكلمات،
وما خلف الظلال التي صنعتها مخاوفنا، عندها، يصبح الحديث عن المستحيل أقل إثارة
للقلق، وأكثر إثارة للحماس، كأننا نقول: ما زال هناك طريق، ما زال هناك باب، وما
زال في هذه الحياة متَّسع لمن يريد أن يرى بأكثر من عين، ويسير بأكثر من خطوة.
لذا، في الأدب العربي، نجد العديد من
الأمثلة التي تتحدث عن الأمل الذي يولد من رحم المعاناة، فالشعراء والكتاب، عبر
العصور، استخدموا هذه المفاهيم للتعبير عن تجاربهم الإنسانية، فالألم، في الأدب،
ليس مجرد شعور سلبي، بل هو وسيلة للتعبير عن القوة والصبر، والأمل، الذي يولد من
هذا الألم، هو بمثابة النور الذي يضيء طريق الإنسان.
ومن جانب آخر، يقدم الفلاسفة رؤية
أعمق لهذه المفاهيم، فقد نظروا إليها من زاوية مختلفة، فالألم، بالنسبة لهم، هو
جزء من التجربة الإنسانية، وهو ما يجعل الإنسان يشعر بقيمته، والأمل، الذي يولد من
رحم المعاناة، هو ما يجعل الحياة تستحق العيش، فبدون الألم، لن يكون هناك أمل،
وبدون الأمل، لن يكون هناك حياة.
بناءً على ما سبق، "رحم
المستحيل" ليست مجرد عبارة، بل هي فلسفة حياة!، تعلمنا أن الألم والمعاناة قد
يكونان جزءاً من رحلة تحقيق المستحيل، لكن في النهاية، الأمل هو الذي يحول الصعب
إلى ممكن!، تذكرنا بأن الإنسان، بقدرته على التحمل والإبداع، يستطيع أن يجعل
المستحيل ممكناً، وأن يخرج من رحم المعاناة بأمل جديد، لا يولد من الألم، بل من
إرادة لا تعرف حدوداً.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق