الأحد، 16 مارس 2025

 

حين يتكلّم الصمت: حوار مع الظلّ!

 

يقال إن الصمت حكمة، لكن أي صمتٍ هذا؟ هل هو الصمت الذي يمنح الفكر فرصةً ليشتدّ عوده قبل أن يخرج إلى العلن، أم ذاك الصمت الذي يتآكل في الداخل، حتى يصبح فراغاً يبتلع صاحبه؟ ليس كل صمتٍ ذهباً، ففي بعض الأحيان، يكون الصمت هو العدم، وهو الصفحة البيضاء التي يرفض التاريخ أن يكتب عليها، فالتاريخ لا يدون الصامتين، بل يكتب عن أولئك الذين تجرأوا على كسر حاجز الصمت، الذين تركوا أصواتهم تصدح، لتصبح أثراً لا يُمحى.

 

لكن الصمت ليس مجرد غياب للصوت، بل هو عالم قائم بذاته، مليء بالأسرار والأسئلة التي تبحث عن إجابات!، قد يكون لغةً لا تحتاج إلى كلمات لتُفهم، لكنها تحتاج إلى قلب واعٍ ليُترجمها، فالصمت قد يكون حكمةً حين يسبق القول، وقد يكون نقمةً حين يتحوّل إلى حاجز يعزل الإنسان عن ذاته وعن الآخرين!، قد يكون ملجأً للضعفاء، أو سجناً للأقوياء، فمتى يكون الصمت قوةً، ومتى يصبح لعنةً؟ هل يكتب التاريخ بالصمت، أم يُكتب بالكلمات؟

 

كسر الصمت ليس مجرد خروج بعض الكلمات في الوقت المناسب، بل هو عملية معقدة تتطلب شجاعة وحكمة، فكم من سرّ بقي في العتمة لأن أحداً لم يجرؤ على النطق به، وكم من حقيقة ضاعت لأن الصمت كان سيد الموقف!، نويرام، ذلك الاسم الغامض، يبقى رمزاً لكل ما هو غير مُعلن، ولكل ما هو مختبئ في أعماقنا، ولكل تلك الكلمات التي لم تُقل، والمواقف التي بقيت حبيسة التردد والخوف.

 

"الصمت هو اللغة الأقوى"، هكذا يقول مهاتما غاندي، لكنه أيضاً يقول: "عليك أن تكون التغيير الذي تريد أن تراه في العالم". فهل يكون الصمت هو القوة حين يُستخدم بحكمة، أم أن التغيير الحقيقي يبدأ حين نقرر كسره؟ كسر الصمت قد يكون بداية التحول، لكنه يتطلب منا أن نكون مستعدين لمواجهة النتائج، سواء كانت إيجابية أم سلبية، لأن الكلمات حين تخرج، لا تعود كما كانت، بل تصبح قوة قادرة على إعادة تشكيل العالم من جديد.

 

تخيل سلطاناً يصمت طويلاً، يراقب شعبه بلا خطابات، بلا قرارات، بلا كلماتٍ تُنير الدروب!، ماذا سيحدث؟ ستبدأ رياح الشك تتسرّب إلى القلوب، ويتحوّل الصمت إلى خوفٍ غامض!، الصمت هنا ليس مجرد غياب للكلام، بل هو غياب للتواصل، وللثقة، وللرؤية، فالشعوب تحتاج إلى صوت قائدها، تماماً كما تحتاج إلى شمسٍ تشرق في صباحها، وكما تحتاج إلى منارة تهديها وسط العتمة، وحين يغيب هذا الصوت، يصبح الصمت فراغاً يُثير الشكوك، يُغذي الخوف، ويُضعف الروابط بين الحاكم والمحكوم.

 

لهذا، لم يكن أعظم القادة عبر التاريخ صامتين، بل كانوا مفوهين، كلماتهم سبقت سيوفهم، وخطبهم شيّدت المعنويات قبل أن تُشيّد الجدران، كان لهم خطابٌ يصل إلى القلوب قبل أن يصل إلى الساحات، يشعل الحماسة، ويوجّه البوصلة.

 

رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية ألهب شعبه في أحلك اللحظات بكلماته، لم يكن جيشه الأقوى، لكنه بكلماته أشعل جذوة الصمود في قلوب البريطانيين، قائلاً: "سنقاتل على الشواطئ، سنقاتل في الميادين، سنقاتل في الحقول والشوارع، سنقاتل في التلال! لن نستسلم أبداً!" فصارت كلماته جداراً يحتمي خلفه الناس حين انهارت المدن، أو نابليون بونابرت، الذي أدرك أن "الكلمة الحادة أقوى من ألف مدفع"، فقاد جيوشه بالكلام قبل أن يقودهم بالسيف، وحتى الناشط الحقوقي الأشهر مارتن لوثر كينغ، غيّر مجرى التاريخ بخطابه الشهير "لدي حلم"، وقف في ساحة وقال ببساطة: "لدي حلم"، فاهتزّ العالم بصوته، وتغيّرت مسارات التاريخ، هؤلاء لم يكونوا مجرد أصوات، بل رموزاً للكلمة التي تُحرك الشعوب وتصنع مصائرها.

 

لكن، ماذا عن القادة الذين اختاروا الصمت؟ هل نذكرهم بنفس القدر؟ الصمت هنا ليس مجرد غياب للكلام، بل هو غياب للتأثير، غياب للحضور، غياب لصوت يمكنه أن يغير مجرى الأحداث. التاريخ لا يرحم الصامتين، لأنه ببساطة لا يسمعهم. الشعوب التي تختار الصمت، سواء كان صمتاً قسرياً أو طوعياً، تُخاطر بأن تُنسى، بأن تصبح مجرد ظلال في صفحات الزمن.

 

في المقابل، كم من قائدٍ ابتلعته العتمة لأنه صمت حين كان عليه أن يتكلم؟ وكم من أمةٍ لم تجد لها أثراً في كتب التاريخ لأنها لم تترك صوتاً خلفها؟ لا يُكتب التاريخ بالصمت، بل يُكتب بالصوت، وبالحرف، وبالكلمات التي تتحدّى الزمن، لأن القادة الحقيقيين لا يُسمعون فقط، بل يُخلّدون بما قالوه في اللحظات الحاسمة.

 

ولكن، هل الصمت دائماً لعنة؟ أليس هناك لحظات يصبح فيها الصمت أعمق من كل قول، وأصدق من كل ضجيج؟ لحظات يكون فيها الصمت هو القوة ذاتها، حين يصبح لغة الخائفين والحكماء على حد سواء. هنا تبدأ الأسئلة، وهنا تبدأ الحكاية...

 

في هذه الرحلة الفلسفية، سنسافر معاً في حوار مع "نويرام"، ذلك الاسم الغامض الذي يبدو وكأنه ينتمي إلى عالم آخر!، نويرام ليس مجرد شخصية، بل هو رمزٌ متعدد الأبعاد، يجسد الصمت والكلام، الضوء والظلام، الوضوح والغموض!، من هو نويرام؟ هل هو الصوت الداخلي الذي يوجهنا؟ أم الحكيم الذي يرشدنا إلى توقيت الكلمات؟ أم هو الصمت نفسه الذي يحاول أن يبقينا في دائرة التأمل؟

 

عندما نقرر كسر الصمت، لا نكسر فقط قيودنا الداخلية، بل نكسر أيضاً القيود التي تحكم على أمم بأكملها بالنسيان!، نويرام، بغموضه، يبقى رمزاً لهذا الاختيار: الصمت أو الكلام، النسيان أو الخلود!، الحوار مع نويرام يبقى مفتوحاً، لأن الصمت والكلام هما وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر، علينا أن نختار بحكمة: متى نصمت، ومتى نتكلم، لأن في هذا الاختيار قد نحدد مصيرنا، ومصير من حولنا.

 

الظل الذي ينبض بالصمت!

في البداية، لم يكن الراوي متأكداً إن كان يجلس وحده في الغرفة، أم أن هناك حضوراً آخر لا تراه العين!، الضوء الخافت على الجدران كان يهتز كما لو أنه يتنفس، والهواء يمر بطيئاً، متثاقلاً، كأن الزمن يتباطأ تحت وطأة صمت غير مفسَّر، لكنه لم يكن صمتاً فارغاً، بل كان ممتلئاً بأفكار حبيسة، وبذكريات لم تجد لها صوتاً، وبحوارات لم تنطق بعد.

 

في زاوية الغرفة، حيث تلتقي العتمة بالحواف الحادة، تجسد نويرام!، لم يكن له ملامح واضحة، كأن الظل نفسه هو ما يمنحه وجوده، أو ربما لم يكن سوى انعكاس غريب لهذا الصمت ذاته. تساءل الراوي بصوت داخلي متردد: "هل أنت هنا؟ أم أنني فقط أتحدث مع نفسي؟". لم يجب نويرام فوراً، بل انحنى قليلاً للأمام كما لو أنه يقتنص الكلمات، وحين تحدث، خرج صوته من أعماق الفراغ ذاته: "الصمت ليس فراغاً، بل امتلاءٌ مخيف!، إنه الحكايات التي لم تُروَ، والأصوات التي لم تجد منفذاً، إنه اللغة التي لا تُترجم".

 

أغمض الراوي عينيه للحظة، كان يدرك أن الصمت ليس مجرد غياب الصوت، بل هو كيانٌ حيّ، يتنفس مثل الضوء، ويزداد كثافة حين تتراكم المشاعر غير المُعبّر عنها!، كم من مرة صمتَ حين كان يجب أن يتحدث؟ كم من مرة ابتلع كلماته خوفاً من أن تنقلب عليه؟ لكن ماذا لو كان الصمت هو السيف الذي يقطع أكثر من الكلمات نفسها؟ جاء صوت نويرام من جديد، أكثر عمقاً، كأنّه ينبش في ذاكرة الراوي نفسها: أحياناً، يكون الصمت أكثر صخباً من الضجيج، أتذكر ما قاله مارتن لوثر كينغ؟ "في النهاية، لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا".

 

اهتز شيء في داخله!، كان يعرف هذا النوع من الصمت!، الصمت الذي لم يكن اختياراً، بل تواطؤاً غير معلن، الصمت الذي يجعل الإنسان يترك موقفاً يُرادف الخيانة، أو يخسر علاقة لأنه لم يمتلك الشجاعة للنطق في اللحظة الحاسمة. نظر إلى نويرام، لكنه بدا وكأنه يذوب في الظل، كأن كيانه لم يكن سوى امتداد لهذا الصمت الذي يسكن الأشياء. "إذن، هل الصمت حكمة أم لعنة؟" ضحك نويرام، لكن ضحكته لم تُسمع، فقط ارتجفت الجدران قليلاً، كما لو أن الصمت ذاته كان يضحك من السؤال.

 

ما بين الصمت والندم: لحظةٌ ضائعة!

كان يعرف هذا النوع من الصمت، ذلك الذي يُثقل القلب بأعباء الندم لاحقاً!، حين كان يُفترض أن ينطق، لكنه ترك الكلمات تتبخر في صدره!، مع العشاق، حين كانت كلمة واحدة كفيلة بإيقاف انهيارٍ قادم، لكنه لم يقلها!، ومع العائلة، حين كان الخلاف يتصاعد، وكان يمكن لصوتٍ بسيط أن يكسر الجدار، لكنه التزم الصمت!، ومع زملاء العمل، حين رأى ظلّاً من الظلم يمرّ أمامه، لكنه لم يتدخل، الصمت الذي يشبه باباً مغلقاً أمام فرصة لن تعود.

 

تساءل في نفسه: هل نحن من نختار الصمت، أم أنه هو من يختارنا؟ "ليس كل صمت جبناً، وليس كل مواجهة شجاعة، أحياناً، يكون الصمت قوة، لكنه قد يصبح السيف الذي يقطع ما تبقى من خيط النجاة". كان صوت نويرام يتقاطر من سقف الغرفة، كأن الصمت ذاته يتحدث من خلاله. تذكّر الراوي من قال ذات يوم: "الساكت عن الحق شيطان أخرس". لكن ماذا عن الذي يتكلم في غير وقته؟ أليس هناك من قال أيضاً: "إذا كان الكلام من فضة، فالصمت من ذهب"؟ إذن، أيّهما أقرب للحكمة؟ وأيهما أشبه بالخيانة؟

 

 

أحياناً، يكون الصمت نجاة، كما في لحظات الغضب، حين يكون الكلام وقوداً يشعل حرائق لا تنطفئ. قال مارك توين: "يُفضَّل أن تلتزم الصمت ويظن الناس أنك أحمق، على أن تتكلم وتؤكد لهم ذلك"، لكن في أحيانٍ أخرى، يكون الصمت حكماً بالإعدام على فرصة لم تُغتنم، أو كرامة أُهينت وسُكت عنها حتى تلاشت!، كم من اعتذارٍ لم يُقال أودى بعلاقة إلى الزوال؟ وكم من كلمة حقٍّ ابتُلعَت سمحت للظلم بأن يستمر؟

 

كان الراوي غارقاً في دوامة التفكير حين سأله: "وكيف نعرف متى يكون الصمت نعمة، ومتى يكون لعنة؟" ضحك نويرام، ضحكة لم تُسمع، لكنها تشققت في الهواء كأنها صدى مجهول، ثم قال: "الأمر بسيط: حين يكون الصمت خوفاً، فهو لعنة، وحين يكون الصمت انتظاراً للحظة المناسبة، فهو حكمة". لكن كيف نميز بين الخوف والانتظار؟ بين الحكمة والجبن؟ هل هو الحدس الذي يخبرنا؟ أم أن كل صمتٍ نبرّره لأنفسنا يبدو حكيماً في لحظته، ثم يتحول لاحقاً إلى ندم؟ شعر الراوي أن الصمت لم يكن مجرد فعلٍ سلبي، بل كان قراراً في حد ذاته، قراراً قد يحمل ثقل الزمن كله.

 

حين يصبح الصمت صوتاً خفياً!

لكن ماذا لو لم يكن الصمت دائماً خياراً؟ ماذا لو كان أحياناً الطريقة الوحيدة التي نعرفها للتعامل مع العالم؟ ربما لهذا السبب، يُقال إن الذين يصمتون طويلاً يحملون في داخلهم ضجيجاً لا يمكن إسكاته.

الذين يختارون الصمت لا يفعلون ذلك لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأنهم يعرفون أن بعض الكلمات، حين تخرج، لا تعود!، هناك من يصمت لأنه خائف، وهناك من يصمت لأنه حكيم، وهناك من يصمت لأنه يدرك أن اللغة عاجزة عن ترجمة ما يشعر به. قالت لويز نيكلسون: "أقوى صرخة هي الصمت".

 

تساءل الراوي: "هل يمكن للصمت أن يكون صوتاً بحد ذاته؟" أجابه نويرام، هذه المرة بنبرة شديدة الوضوح، كأن الصمت نفسه قرر أن يتحدث من خلاله: "بالتأكيد. ألا تسمع صمت البحر حين تسكن أمواجه؟ ألا ترى كيف تتحدث العيون حين يخونها اللسان؟ ألا تشعر بثقل الهواء حين يكون في الغرفة شخص يخفي سراً؟"

 

أدرك الراوي أنه لم يكن بحاجة إلى إجابة أخرى. نعم، الصمت صوت، لكنه صوتٌ لا يسمعه الجميع، إنه الصوت الذي يملأ الفراغ بين كلمتين لم تُقالا، أو بين نظرتين كان يمكن لهما أن تبوحا بكل شيء.

كم مرة شعر الإنسان أن الصمت أقوى من أي اعتذار؟ كم مرة أدرك أن السكوت كان الجواب الوحيد الممكن؟ قال إميل سيوران: "الصمت هو ترف الفهم"، ولعل هذا هو جوهر الصمت الحقيقي!، أن تدرك ما لا يُقال، وأن تقرأ بين السطور، وأن تفهم أن الصمت ليس فراغاً، بل هو امتلاءٌ بما لا يقال.

 

في بعض الأحيان، يكون الصمت هو اللغة الوحيدة التي تفهمها الأرواح التي خذلتها الكلمات، ويكون هو الحصن الأخير لمن لم يعد يثق في جدوى الحديث، هو الملجأ لمن يدرك أن بعض المشاعر أوسع من أن تحويها جملة، وأثقل من أن يحملها صوت، لكن هل الصمت راحة أم عذاب؟ أهو انعزال أم احتواء؟ أهو درعٌ نحتمي به، أم سجنٌ نبنيه بأيدينا؟ شعر الراوي أن الصمت يشبه المرآة، يعكس الداخل لمن يجرؤ على التحديق فيه طويلاً.

 

كسر الصمت... بين الضوء والوضوح!

كسر الصمت يعني المواجهة، لكن المواجهة لا تعني بالضرورة الصراخ أو العنف، فقد تكون المواجهة مجرد همسة، أو نظرة، أو حتى صمت آخر يحمل في طياته معنى أعمق. يقول كارل يونغ: "ما لا نواجهه، نعيشه مراراً وتكراراً".

كسر الصمت هو خطوة نحو تحرير النفس من دوامة التكرار، لكن كيف نعرف متى يكون الوقت المناسب لكسر الصمت؟ الراوي: "كيف أعرف متى يجب أن أكسر الصمت؟" نويرام: "عندما تشعر أن الصمت أصبح ثقيلاً، وعندما ترى أن الكلمات قد تنير طريقاً مظلماً". الراوي: "لكن ماذا لو كانت الكلمات ستؤذي؟" نويرام: "الكلمات قد تؤذي، لكن الصمت قد يدمر".

 

 

ما بين الاعتراف والهروب: الصمت حين ينهار!

لكن هل يمكننا كسر الصمت حقاً؟ هل يكفي أن نقرر التحدث لنقضي عليه؟ أم أن هناك صمتاً أعمق، لا يكسره سوى ضوء الحقيقة؟ وقف الراوي، وشعر بأن الغرفة لم تعد كما كانت. كان هناك ضوء يتسلل عبر النوافذ، كأن الجدران كانت تستمع للحوار، وكأنها فهمت الآن أن الصمت نفسه قد تلاشى بمجرد أن صار حديثاً. تساءل: هل الصمت يُكسر بالكلام حقاً؟ أم أن هناك صمتاً أعمق، لا تفضحه الأصوات بل يفضحه الإدراك؟

 

قال نويرام قبل أن يختفي في الظل مجدداً، وكأن كلماته كانت آخر خيط يربطه بالواقع: "كسر الصمت ليس مجرد نطق، إنه شجاعة مواجهة النفس قبل مواجهة الآخرين، إنه إخراج الكلمات التي تخنقك، في اللحظة التي يجب أن تُقال فيها، لا قبل ذلك ولا بعد فوات الأوان".

 

أدرك الراوي أن الصمت قرارٌ صامتٌ في حد ذاته!، فهناك من يصمت لأنه يخاف، وهناك من يصمت لأنه يحترم، وهناك من يصمت لأنه يعرف أن الكلمات أحياناً ليست سوى رياحٍ لا تغير شيئاً. كما عبّر نيتشه: "أصعب أنواع الألم هو ذاك الذي لا يُقال"، وكأن الإنسان حين يصمت يدفن شيئاً في أعماقه لا يقوى على حمله إلى السطح.

 

لكن هل كل كسرٍ للصمت يعني الحرية؟ هل الضوء الذي يأتي بعد الصمت دائماً يُبصر الحقيقة، أم أن بعض الحقائق تُحرق من شدة الضوء؟ تذكّر الراوي كيف أن بعض الحقائق حين تُقال لا تداوي، بل تُحدث جرحاً جديداً، وكيف أن بعض الأصوات حين تنطلق لا تُحرر، بل تقيّد قائلها أكثر.

 

كان عليه أن يتعلم كيف يفرق بين الصمت الذي يحميه والصمت الذي يخنقه!، بين الصمت الذي يمنح الحكمة، والصمت الذي يكتم الحقيقة!، بين الصمت الذي يبني، والصمت الذي يهدم.

هل كان نويرام مجرد خيال؟ أم كان انعكاساً داخلياً؟ أم أنه كان الصمت نفسه، حين يقرر أن يتحوّل إلى صوت؟ كان الأمر يبدو كما لو أن الصمت لا يُكسر بالكلمات، بل بالوعي، وباللحظة التي ندرك فيها لماذا صمتنا، ولماذا حان الوقت للكلام.

 

خرج الراوي إلى الشرفة، نظر إلى الأفق الممتد، وشعر أن الهواء صار أخفّ، كما لو أن شيئاً كان يثقله قد انزاح!، ربما لم يكن كسر الصمت دائماً عن طريق الصوت، بل عن طريق الفهم!، أن تفهم نفسك، وأن تفهم صمتك، وأن تعرف متى تتحدث، ومتى تبقى صامتاً لأن الصمت في تلك اللحظة هو أبلغ من أي كلمة!، الصمت لغة، لكنه لم يكن نهاية الحديث، بل ربما كان بدايته الحقيقية.

 

الصمت... ذلك العالم الذي لا ينتهي!

في النهاية، يبقى السؤال: هل نويرام شخصية حقيقية؟ أم هو مجرد انعكاس لصراعي الداخلي؟ قد يكون الجواب في الصمت نفسه، أو في الكلمات التي نختار أن نقولها عندما نقرر كسره، لكن ماذا لو كان الصمت ليس مجرد صراع داخلي، بل هو أيضاً صراع خارجي؟ ماذا لو كان الصمت قوة خفية تُشكل مصائر الشعوب وتُحدد مسارات التاريخ؟

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خسائرنا الصامتة: سيرة ما لم يُحكى بهدوء!

  خسائرنا الصامتة: سيرة ما لم يُحكى بهدوء!  لا يعلو شيء كما يعلو الصمت حين يكون صدى لشيء فقدناه. ليست كل الفجائع نحيبًا. بعضها يتخفّى بين ال...