فوضى الإبداع: احتكار الفن وتكرار الوجوه!
في عالم الفن، هناك قاعدة بسيطة لكنها
حاسمة: لكل شخص دوره، ولكل تخصص مكانه!، المخرج يجب أن يظل مخرجاً، لا كاتباً ولا
ممثلاً، والممثل عليه أن يؤدي دوره دون أن يتحول إلى مخرج أو كاتب سيناريو،
والمؤلف عليه أن يلتزم بحدود القصة دون أن يتدخل في الحوار أو الإخراج، فعندما
تتداخل الأدوار وتُطمس الحدود، يتحول العمل الفني إلى فوضى إبداعية فاقدة للهوية،
مجرد كومة من المشاهد المبعثرة التي لا روح فيها!، الفن يحتاج إلى احترام التخصص،
إلى تعاون متناغم بين أصحاب الخبرة، حيث يكمل كل طرف الآخر ليصنعوا معاً عملاً
متكاملاً، لا حفلة من العشوائية والتخبط.
لكن الواقع شيء آخر!، يتدخل المخرج في
كتابة السيناريو، ويتحكم المنتج في تفاصيل القصة، ويقرر الممثل كيف يجب أن يكون
الحوار!، النتيجة؟ أعمال فنية هزيلة، مكررة، بلا قيمة تُذكر!، كجمهور، نحن لا
نطالب بالمستحيل، فقط بالحد الأدنى من الاحترام لذكائنا، وأن يُقدم لنا عمل متقن،
لا مجرد محتوى مصنوع بعقلية تجارية بحتة.
لماذا يُصرّ البعض على اعتبار المشاهد
غافلاً؟ أثناء متابعتي لمسلسلات رمضان لعام 2025، وجدت أن المشهد الفني قد تحول إلى
دائرة مغلقة، تهيمن عليها مجموعة واحدة من الأسماء المكررة. مسلسل من إخراج شخص معين،
فإذا به أيضاً كاتب القصة، ومعدّ السيناريو، ومعدّ الحوار أيضاً، ومنتجه شركة واحدة،
وكل ذلك يُعرض على قناة معروفة! كيف يمكن للمخرج أن يكون كل هؤلاء في آنٍ واحد؟ وأين
احترام الأدوار الإبداعية والتخصص؟ الأسوأ من ذلك، أن المنتج ذاته تربطه علاقات جيدة
بصاحب القناة التي تعرض العمل، مما يجعل الإنتاج نفسه يتكرر كل عام على الشاشة ذاتها،
بل يمتد إلى أشهر أخرى!، يبدو وكأن الصناعة الفنية قد تحولت إلى ملكية خاصة، حكراً
على مجموعة صغيرة تدور في حلقة مغلقة: تُنتج لنفسها، وتوزّع لنفسها، وتروّج لنفسها،
في المقابل، مئات المواهب تظل قابعة في الظل، تنتظر فرصة قد لا تأتي أبداً لأن اللعبة
محسومة سلفاً!
والأدهى أن الوجوه تتكرر بلا نهاية!
ممثلة واحدة تظهر في مسلسلين، ثم في إعلان، ثم في مسلسل ثالث، وكأن لا أحد سواها
يصلح للتمثيل! حتى القصص نفسها لا تتغير، بل يعاد تدويرها بديكور جديد ووجوه معدلة
تجميلياً!، ألم يملّ صنّاع هذه الأعمال من أنفسهم؟ أم أن الرهان دائماً على أن
ذاكرة المشاهد ضعيفة، وأنه سيقبل بأي شيء يُعرض أمامه؟
نحن، كمشاهدين، لسنا أغبياء! وحقنا أن
نحصل على محتوى يحترم عقولنا، لا أن يُفرض علينا نفس الأسماء، ونفس القصص، ونفس
الوجوه، وكأن لا أحد غيرهم يستحق فرصة، آن الأوان لأن تُحاسب هذه الصناعة على ما
تقدمه، وأن يستعيد الفن مكانته الحقيقية: مساحة للإبداع، لا سوقاً للاحتكار
والاستغلال.
لكن، كيف يُسمح بسرقة أوقاتنا بينما
يُراهن على ضعف ذاكرتنا الجماهيرية؟ أليس من حقنا أن نسأل: من يحاسب هؤلاء؟ من
المسؤول عن هذا المشهد الفني؟ كيف تمر مثل هذه الأعمال دون مساءلة؟ أين الرقابة؟
وأين الفن؟ لقد تحولت الساحة إلى سوق تجارية بحتة، حيث يُعاد تدوير الفنانين في
أدوار مستهلكة فقط لضمان تكرار ظهورهم الإعلامي وكسب قوت يومهم.
لماذا يُفرض علينا مشاهدة مسلسلات
تكرر ذات القصة، بنفس البطولة، وبنفس الأسماء؟ هل أصبح المال هو المحرك الأساسي
للفن؟ وأين دور الثقافة؟ أين الأندية الأدبية التي من المفترض أن تكون حاضنة
للإبداع؟ أين الإسهامات الخليجية والعربية التي توحد الجهود وتخلق حالة فنية
حقيقية؟ نحن مشاهدون، نعم، لكننا نريد أن نحاسب علناً كل من يكرر نفسه في القصة أو
الدور، لأن الفن يستحق أن يكون انعكاساً حقيقياً للإبداع، وليس مجرد صناعة لتعبئة
الفراغ.
كيف تمر مثل هذه المسلسلات على كبرى
القنوات؟ هل لأن القناة محسوبة على دولة معينة فلا تشتري إلا من منتجيها؟ هل يجب
أن أكون من جنسية معينة حتى يُسمح لي بالعبور إلى هذه المنصات؟ المشاهد ليس ساذجاً،
يقرأ الأسماء التي تتكرر على التتر، ويلاحظ هذا الاحتكار الفج!، أين النقاد؟ أين
احترام الفن والسينما والدراما؟ أين المؤسسات التي تدافع عن الإبداع الحقيقي؟ كيف
يُترك المجال لهذا العبث؟ هذه ليست صناعة فنية، بل سوق مغلق يُباع فيه الفن لمن
يدفع أكثر، وليس لمن يبدع أكثر.
لقد مللنا من السكوت في هذا الموضوع،
يجب أن تُسمع أصواتنا لأبعد مدى!، لا يمكن أن يستمر هذا التكرار في كتابة القصص أو
المسلسلات، أو في أدوار بعض الفنانين، أو حتى المخرجين الذين يقودون فرقاً في
إنتاج الأعمال الفنية، أين عقول أصحاب القنوات الذين يشترون هذه الأعمال ويعرضونها
على الجمهور؟ هل أصبح الناس بلا وعي، حتى أن كل ما يُنتج يجب أن ينتشر على حساب
أوقاتهم وأموالهم؟ هذا ليس سوى لعبة رخيصة! التاريخ يجب أن يحاسب كل من يساهم في هذه
الممارسات الخاطئة.
أين وزارة الثقافة والإعلام في كافة
الدول العربية، أين دورها في إيقاف هذه الممارسات الخاطئة التي تستمر لعقود؟ نرى
الفنانين لا يتغيرون، بل يورثون أولادهم المهنة، والجمهور ما زال يضيع وقته
وأمواله وجهده، ويظل صامتاً يصفق لهذه الفئة التي أعتبرها من يخون الفن!، هؤلاء هم
الذين يوقفون التقدم الفني والنهضة الثقافية.
لابد أن تكون هناك هيئة لفرض النزاهة
ولتدقيق ومراقبة الفن!، نحن، الجمهور، نصرف الكثير من الوقت والجهد والكهرباء،
فضلاً عن رسوم وضرائب الإنترنت والباقات، لمشاهدة تلك المسلسلات التي تُعاد وتُكرر
دون حسيب أو رقيب، ودون معالجة حقيقية للإشكاليات التي تواجهنا!، من له اليد
الطولى في إيقاف هذا التسمم البصري والذهني الذي لا يعود بالنفع على نمو الثقافة
الفنية العربية؟ يجب محاسبة كل من يقف ضد هذا النمو ويقتل الفرص أمام الوجوه
الشابة الجديدة، كتّاب القصص والمؤلفين، وكتاب السيناريو الجدد، لماذا تُحسم
الأمور لصالح زمرة واحدة دون غيرها؟ من هو المسؤول؟ أكرر: كيف لنا أن نقدم
ملاحظاتنا كمشاهدين عبر جهة حكومية مسؤولة، تفهم قيمة الثقافة في تشكيل وبناء
شخصيات الأفراد في المجتمع؟
لإيقاف هذه الممارسات الخاطئة، يجب
إنشاء هيئة عربية مشتركة تضم عدة دول، تكون مهمتها مراقبة الأعمال الفنية التي
تُعرض على الجمهور العربي، ويجب أن تكون هذه الهيئة جهة اعتبارية تمثل الجمهور
العربي، وتكون مسؤولة عن استقبال الأعمال الفنية ومراجعتها قبل عرضها، وعليها
محاسبة المخرج إذا تدخل في كتابة الحوار أو في أي جانب آخر من العمل، كما يجب
محاسبة الفنان إذا تجاوز دوره إلى التأليف أو التدخل في عمل المخرج، ستكون هذه
الهيئة جداراً يحمي الجمهور من الفن الملوث، ويضمن أن الأعمال التي تُعرض تلتزم
بالمعايير الفنية والأخلاقية، وتحترم تخصصاتها، بهذه الطريقة، يمكننا إنهاء هذه
الممارسات الخاطئة المستمرة واستعادة ثقة الجمهور في الفن الذي يُعرض.
القنوات الفضائية ليست مجرد منصات
لعرض المحتوى، بل هي أدوات مؤثرة في تشكيل الثقافة الفردية والجماعية في المجتمع،
لذلك، لا يمكن قبول عرض هذه القنوات لأي محتوى دون احترام القيم الفنية والثقافية،
يجب وضع آلية واضحة لمحاسبة القنوات التي تعرض محتوى مكرراً أو مبتذلاً أو يتجاوز
المعايير الفنية، ويمكن ذلك من خلال إنشاء سلم سنوي يتم فيه تصنيف القنوات وفقاً
لالتزامها بالقواعد والمعايير التي تضعها الهيئة العربية المشتركة، وانخفاض مرتبة
القناة في هذا السلم سيكون بمثابة ضغط جماهيري ومؤسسي يدفعها لتحسين أدائها.
الحل واضح، لكنه يتطلب إرادة حقيقية:
نحتاج إلى هيئة عربية مستقلة، تمثل الجمهور، تكون مسؤولة عن مراجعة ومراقبة
الأعمال الفنية قبل عرضها، هيئة تضع معايير واضحة لما يستحق أن يصل إلى المشاهد،
وتحاسب كل من يعبث بهذه الصناعة!، كذلك، لا بد من نظام تصنيف للقنوات الفضائية،
يحدد مدى التزامها بالمعايير الفنية، بحيث تُحاسب القنوات التي تروج للمحتوى
المكرر والمبتذل.
كما يجب أن تُساءل الجهات الرقابية
التي من المفترض أن تكون الدرع الحامي للثقافة الفنية، كيف يُسمح لهذا العبث بأن
يستمر؟ أين دور وزارات الثقافة والإعلام؟ أين الجمعيات والنقابات الفنية؟ لا يمكن
أن يستمر هذا الصمت، ولا يمكن أن تُترك هذه الصناعة في أيدي مجموعة من المتحكمين
الذين يرون الفن مجرد وسيلة لجمع المال، وليس قوة مؤثرة في تشكيل الوعي الجمعي.
لابد أن ندرك أن الفن ليس مجرد وسيلة
للترفيه، بل هو قوة مؤثرة في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي، إنه انعكاس لهويتنا
وأداة لصياغة ملامح المستقبل، وليس مجرد مشهد عابر على شاشة التلفاز!، لذلك، من
واجبنا أن نحرص على دعم الأعمال التي تحترم التخصصات الفنية وتقدم محتوى يحمل قيمة
حقيقية، علينا كمشاهدين أن نكون أكثر وعياً وانتقائية، نرفض الأعمال المكررة
والمستهلكة التي لا تساهم إلا في تكريس الرداءة، وبدلاً من ذلك، نشجع المواهب
الجديدة ونفتح لها الأبواب، بدلاً من الاستسلام لاحتكار نفس الأسماء والوجوه التي
تعيد تدوير نفسها كل عام.
كما يجب أن نطالب بوجود رقابة فنية
حقيقية، لا تعمل لصالح المنتجين أو القنوات، بل لصالح الجمهور والمشهد الفني ككل،
رقابة تضمن أن الفن يبقى مجالاً للإبداع، لا ساحة مغلقة تتحكم فيها المصالح الضيقة،
وعلينا أن نتعامل مع الفن على أنه ليس مجرد ترفيه عابر، بل مسؤولية ثقافية، وعلينا
أن نحميه من أن يتحول إلى أداة للتدهور بدلاً من أن يكون قوة للتطور.
لكن السؤال الأهم: من يحاسب هؤلاء؟ من
يسمح لهذه الفوضى بالاستمرار؟ أين النقاد؟ أين دور المؤسسات الثقافية؟ أين الجهات
التي يفترض أن تحمي الذائقة الفنية من هذا التلوث البصري والفكري؟ كيف يُترك كل
هذا العبث ليهيمن على الشاشات دون أي مساءلة؟
لقد تحول الفن إلى تجارة رخيصة، سوق
مفتوح لمن يدفع أكثر، بينما تتوارى القيم الجمالية والفنية في الخلفية!، هل على
الفنان أن يكرر نفسه إلى ما لا نهاية فقط ليظل حاضراً؟ وهل أصبح الظهور الإعلامي
هدفاً بحد ذاته، بغض النظر عن جودة المحتوى؟
المشاهد العربي ليس ساذجاً، ولكنه
محاصر بخيارات محدودة لا تمثل ذائقته الحقيقية، لماذا يُفترض أن يقبل بالمنتج
الرديء، بينما هناك إمكانيات هائلة لصناعة أعمال فنية ذات جودة؟ لماذا لا تُتاح
الفرصة لأصوات جديدة، لمخرجين وكُتاب موهوبين، يستطيعون إعادة تشكيل المشهد الفني؟
إن احتكار الصناعة بهذا الشكل يحوّلها إلى دائرة مغلقة، تدور حول نفسها، تنتج
التفاهة وتعيد تدويرها، حتى يفقد المشاهد إيمانه بالفن.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق