الثلاثاء، 18 مارس 2025

 

حين يئن المساء بثقل النهار!

 

عندما تنطفئ أضواء المكاتب، وتتحول ضوضاء النهار إلى همس خافت بين الجدران، يولد الانهيار في صمت!، لا يأتي كعاصفة تهب فجأة، بل كقطرات متتابعة من الإرهاق تسقط في الداخل حتى يفيض الكأس، هو ليس لحظة ضعف، بل لحظة كشف، حيث تتعرى الروح من صلابتها الزائفة، وتظهر هشاشتها أمام وطأة الحياة.

 

لطالما تساءل الفيلسوف أبو حيان التوحيدي: "أيها الوجود، كيف تقدر على حمل هذا الكم من العناء، وكيف لا تتفتت القلوب تحت ضربات الأيام؟"، لكن الحقيقة أن القلوب تتفتت، بصمت، وبهدوء، حتى تأتي لحظة لا يعود فيها للصمت معنى.

 

عبء العمل والاحتراق النفسي!

التوتر، ذلك الرفيق الثقيل، يرافقنا كظل نسي أن يغادر عند الغروب!، ففي العمل، بين تقارير مرهقة ورسائل إلكترونية لا تنتهي، يتحول الجهد إلى استنزاف، ويصبح الإنجاز مجرد رقم يُضاف إلى قائمة لا تكاد تنقص، وفي زوايا المكاتب، تُحكى قصص صامتة عن أحلامٍ تآكلها الروتين، وعن طموحاتٍ أُطفئت تحت وطأة الأوامر والمواعيد النهائية.

 

ومع كل يوم يمر، يتحول التوتر إلى شعلة خفية تشعل فتيل الانهيار النفسي، حتى يصبح الجسد منهكاً، والعقل مثقلاً بأسئلة لا إجابات لها!، وتزداد الفجوة بين ما نريد وما نفعل، بين ما نطمح إليه وما يُفرض علينا، حتى نجد أنفسنا في نهاية اليوم منهكين، كأننا نجونا من معركة غير مرئية، لكن بثمن باهظ من أرواحنا.

 

يقول ابن مسكويه: "النفس إذا حملت فوق طاقتها كلّت وضعفت، وإذا لم تُحرَّك بعملٍ مبهجٍ خمدت وذبلت"، ولكن أين نجد البهجة وسط هذا الضغط الهائل؟ كيف نمنح أرواحنا فسحة استراحة قبل أن تفقد وهجها؟

 

الضغوط الشخصية والصحة النفسية!

ليس العمل وحده هو الذي ينهك الإنسان!، هناك ذلك العبء الخفي، الضغوطات الشخصية التي تتسلل إلى أعماقنا دون استئذان، وتزحف معنا من لحظة الاستيقاظ حتى لحظة الانهيار كمشاكل العائلة، ومخاوف الصحة، وتشابك العلاقات، كلها خيوط متداخلة في نسيج القلق الذي يحيط بنا!، نحاول تأجيل الانفجار، نُؤجل البكاء، نؤجل الغضب، نؤجل الانهيار… ولكن كم يمكن للروح أن تتحمل قبل أن تنهار تحت وطأة كل هذا؟

 

الصحة النفسية ليست مجرد رفاهية، بل هي العمود الفقري للحياة، وحين تُهمل، تبدأ التصدعات الصغيرة بالتسرب إلى كل شيء: العمل، والعلاقات، وحتى جودة الحياة نفسها.

 

الجاحظ في كتاب الحيوان يقول: "إذا تراكبت الأحزان على القلب، ضاق حتى لا يسعه الفرح، وإذا تراكم الفرح، اتسع حتى لا يدخله الحزن"، ولكن ماذا لو لم يكن هناك متسع للفرح؟ ماذا لو ظل القلب في حالة احتباس دائم داخل دوامة القلق والتعب؟

 

الانهيار: لحظة الحقيقة!

حين يحين لحظة الانهيار، يتعرى كل شيء!، فجأة، يصبح الغضب لغة الروح، والبكاء عزفاً صادقاً على أوتار الألم، التعب يتجاوز الجسد، ويثقل الأنفاس، ويجعل كل شيء يبدو بعيداً، وكأن الحياة تُشاهد من خلف زجاج ضبابي، والتشاؤم يطرق الأبواب، يسأل: "لماذا كل هذا العناء؟"، والاستسلام يهمس: "لا جدوى من المحاولة بعد الآن."

 

أبو العلاء المعري كان يردد: "تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ، إلا من راغبٍ في ازديادِ"، وكأن الحياة، في لحظات الانهيار، تتحول إلى سلسلة من التحديات المستمرة التي لا مفر منها، ولكن هل الانهيار هو النهاية؟ أم أنه مجرد استراحة تسبق لحظة النهوض من جديد؟

 

ما بعد الانهيار: التوازن المفقود!

الانهيار ليس النهاية، بل هو نداءٌ صادق، صرخة من الأعماق تطالب بالراحة، وبالمصالحة مع الذات، وبإعادة ترتيب الأولويات قبل أن يفوت الأوان، ربما هو دعوة لأن نخفف وطأة المطالب، وأن نجد متنفساً وسط هذا الركض المتواصل، وأن نسمح لأنفسنا بالتوقف قليلاً لنسمع صوت أرواحنا وهي تطلب هدنة.

 

يقول ابن خلدون: "لإنسان مدني بطبعه، ولكن كثرة المشاغل قد تحوله إلى سجين داخل ذاته"، فربما الحل لا يكمن في الهروب، بل في إعادة تعريف علاقتنا مع العمل، ومع الحياة، ومع أنفسنا.

 

لا بأس أن ننهار، أن نبكي، أن نغضب، فالهشاشة ليست ضعفاً، بل هي تذكير بأننا بشر، نخطئ، ونتعب، ونحتاج إلى راحة، المهم ألا يبقى الانهيار محطة نهائية، بل أن يكون استراحة على طريق طويل، حيث نجد في نهايته توازناً لا يجعل الحياة أقل إرهاقاً، لكنه يجعلها أكثر احتمالاً، وأكثر إنسانية.

 

جهاد غريب

مارس 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...