بين السيطرة والتمكين: متى يحترم أصحاب الشركات
أهل الاختصاص؟
في عالم الأعمال، حيث يُفترض أن تُمنح
لكل صاحب اختصاص المساحة الكافية لممارسة دوره واتخاذ قراراته بناءً على معرفته
وخبرته، نجد الواقع مغايراً تماماً!، إذ تتداخل السلطات، وتتشابك المصالح، ويصبح
المهنيون والمتخصصون تحت رحمة أصحاب الشركات الذين يرون أنفسهم أصحاب القرار
المطلق، حتى في الأمور التي لا يفقهون فيها شيئاً.
ليس من النادر أن تجد طبيباً يُجبر
على استخدام علاج معين لأن المدير قرأ عنه في مقالة عابرة، أو مهندساً يُطلب منه
تعديل تصميمه لمجرد أن المالك أعجب بنمط شاهده في فندق فاخر، أو حتى مديراً مالياً
يُدفع إلى تمرير صفقة مشبوهة لأن صاحب القرار يراها "فرصة ذهبية" رغم
مخالفتها للقوانين.
هذه التدخلات العشوائية لا تمر دون
أثر، بل تترك جرحاً غائراً في بيئة العمل!، حين يُجرد المهني من صلاحياته، ويُعامل
كمنفذ أعمى، يفقد شغفه تدريجياً، وتبدأ ثقته بنفسه في التآكل، حيث الإبداع، الذي
هو قلب كل تطور ونجاح، يذبل تحت وطأة القرارات الارتجالية.
كيف لمهندس أو طبيب أو محاسب أن يبدع
وهو محاصر بتوجيهات لا تستند إلى منطق أو تخصص؟ وكيف يمكن للموظف أن يمنح أقصى ما
لديه إذا كان يعلم أن قراره سيُلغى بقرار اعتباطي من شخص لم يدرس مجاله؟
بل إن هذه التدخلات لا تؤثر فقط على
المستوى الفردي، وإنما تتسع دوائرها لتخلق بيئة عمل سلبية يهيمن عليها الإحباط
وفقدان المبادرة. قال الجاحظ: "إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة، فإن فساد الرأي
أن تتردد". فكيف يمكن للعاملين أن يكونوا أصحاب رأي وهم مجرد منفذين بلا هوية
مهنية؟
إن منح الصلاحيات لأهل الاختصاص ليس
رفاهية، بل ضرورة تفرضها طبيعة العمل نفسه!، تخيّل لو أن طبيباً قرر التدخل في
قرارات الطيار داخل قمرة القيادة، أو أن مهندساً معمارياً بدأ بإملاء النصوص على
كاتب روائي!، العبث بالقرارات المهنية لا يؤدي فقط إلى تعقيد العمل، بل قد يكون
كارثياً في بعض الحالات، في النهاية، هناك سبب يجعل لكل مجال خبراءه، وهناك سبب
يجعلنا ندرس ونتخصص ونُختبر قبل أن نُعتمد في أي مهنة.
إن بناء ثقافة مؤسسية صحية هو الأساس
لأي نجاح مستدام!، فالشركات التي تزدهر ليست تلك التي تُدار بعقلية الفرد المستبد،
بل تلك التي تحترم التخصصات، وتُشجع على التعاون، وتُؤمن بأن القوة تكمن في تكامل
العقول لا في تسلط فرد واحد.
القيادة الحقيقية ليست في فرض السيطرة
المطلقة، بل في تمكين الآخرين ليقدموا أفضل ما لديهم، ولنا في مقولة ستيف جوبز درس
بالغ الأهمية: "ليس من المنطقي أن نوظف الأذكياء ثم نخبرهم ماذا يفعلون، بل
نوظفهم لكي يخبرونا هم بما يجب فعله."
لكن، ماذا لو استمر هذا العبث؟ ماذا
لو ظلت الشركات رهينة نزوات أصحابها؟ هنا يأتي دور الجهات الرقابية، التي لا يجب
أن تكتفي بالمراقبة السطحية، بل أن تحمي المهنيين من التدخلات التي تعطل العمل
وتضعفه!، ولا يمكن ترك الأمور لعشوائية القرارات الفردية دون رقابة، وإلا فإننا
أمام بيئة عمل متخبطة تُهدر فيها الكفاءات، ويتحول أصحاب التخصصات إلى مجرد أدوات
تنفيذية فاقدة لأي تأثير حقيقي.
الحل ليس مستحيلاً، ولكنه يتطلب وعياً
وإرادة حقيقية للتغيير!، فالتواصل الفعال بين أصحاب الشركات والموظفين هو الخطوة
الأولى، حيث يجب أن يُبنى هذا التواصل على أساس الاحترام المتبادل، لا على عقلية
الأوامر والإملاءات.
يجب على أصحاب القرار أن يدركوا أن
نجاح مؤسساتهم لا يأتي من فرض الآراء الشخصية، بل من الاستفادة من العقول التي
يعملون معها، وأن الإدارة ليست استعراضاً للقوة، بل فن تمكين الآخرين. قال ابن
خلدون: "العدل أساس المُلك"، فإن لم يكن هناك عدل في توزيع الصلاحيات،
فكيف ننتظر ازدهاراً في العمل؟
إن استمرار التدخل العشوائي في
القرارات المهنية يقتل روح الابتكار، ويدفع الشركات إلى طريق الفشل المحتوم، حيث
تُتخذ القرارات بناءً على أهواء شخصية لا على معايير مهنية، وإزاء ذلك، لا يسعنا
إلا أن نتساءل: متى يدرك أصحاب الشركات أن النجاح لا يُبنى بالسيطرة المطلقة، بل
باحترام العقول والاستفادة من الخبرات؟
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق