حين تنضج الأشياء في وقتها: ماذا لو كانت بذور
الفراغ كنزاً؟
كنت أعبر الطريق ذاته، ذاك الذي لم
يكن يوماً طريقاً، بل امتداداً من الرمل والفراغ، رقعة صامتة لا تحكي سوى لغة
السكون!، مرّ الزمن، ورأيت الأرض تفسح المجال لاستقبال الإسفلت، ثم رأيت العجلات
الأولى التي عبرته بخفة، فتسارع الخطى، وانتشرت البنايات الخجولة على جانبيه، كما
لو أن العمران يتقدم بحذر، يختبر الأرض قبل أن يستقر فيها. تذكرت
حينها قصة المزارع الذي زرع شجرة الجميز، ولم يرَ ثمارها إلا بعد سنوات طويلة، حتى
كاد يظن أنها بلا فائدة، لكن حين أثمرت، أدرك أن كل شيء يحتاج إلى وقته الخاص.
كل شيء بدا في تحول مستمر، من الفراغ
إلى الامتلاء، ومن العدم إلى الحياة، ثم جاء الاستثمار، وصارت المساحات التي كانت
لا تثير الانتباه مرتعاً للبنايات، وتحولت التربة التي ظنها البعض بلا قيمة إلى
أصول تتزايد أرقامها في دفاتر الاقتصاد، لكن بقيت بعض الأركان بلا بناء، ظلت بقعاً
صامتة وسط الضجيج المتنامي، كما لو أن الزمن نسيها أو كما لو أنها لم تملك بعد
جاذبية الاستثمار!، ذكرني ذلك بحكاية فان جوخ، الذي لم يبع خلال حياته سوى لوحة
واحدة، بينما تُقدر أعماله اليوم بالملايين، فقط لأن زمنه لم يكن قد أدرك بعد
قيمته الحقيقية.
كثيراً ما تأملت تلك المساحات
الخالية، وقلت في نفسي: هل الفراغ محكوم عليه دوماً بأن يكون بلا قيمة؟ وهل كل ما
يبدو مهملاً هو كذلك بالفعل، أم أن القيمة تتغير كما يتغير الزمن، فتتحول الأشياء
التي كنا نظنها بلا أهمية إلى أشياء لا تُقدر بثمن؟
اليوم، وأنا أعبر ذات الطريق، أجد
الأسوار تحيط بتلك البقع التي بقيت لسنوات مهجورة، وجرافات تنبش الأرض كما لو أنها
تستخرج كنزاً دفيناً!، تلك المساحات التي لم يلتفت إليها أحد صارت اليوم الأغلى،
لم تكن بلا قيمة، لكنها فقط انتظرت لحظتها، وانتظرت أن تتغير نظرة الناس إليها، وأن
تتبدل الحسابات، وأن تأتي اللحظة التي تُكشف فيها أهميتها، بعدما صار الحي نفسه
جاهزاً لاستيعابها، كما حدث مع هاري بوتر، الذي رُفضت مخطوطته مراراً قبل أن تتحول
إلى واحدة من أنجح السلاسل الأدبية في التاريخ، هذا الأمر ينطبق على الأماكن أيضا،
كثير من الأحياء التي كانت مهملة قبل عقود، ولم يكن أحد يتوقع لها أي مستقبل،
تحولت اليوم إلى مراكز اقتصادية ضخمة بسبب التطور العمراني، تماماً مثل أحياء في
دبي أو الرياض التي كانت مجرد صحراء قبل أن تصبح مناطق استثمارية عالمية.
هكذا تبدو الحياة، تمضي في مدّ وجزر، وفي
إهمال ثم انتباه، وفي تقييم متسرع يعجز عن رؤية الصورة كاملة!، كم من إنسان ظنه
الآخرون بلا مستقبل، ثم تكشفت الأيام عن جوهره؟ وكم من فكرة بدت تافهة، ثم انقلبت
إلى ثورة في الفكر؟ وكم من لحظة ظنناها عبثاً، فإذا بها تشكل منعطفاً غير متوقع في
حياتنا؟ إن الزمن لا يكشف فقط عن القيمة الحقيقية للأشياء، بل يعيد ترتيبها وفق
معطيات لم نكن ندركها حين أصدرنا حكمنا الأول.
قال المتنبي: "الرأيُ قبل شجاعةِ
الشجعانِ هو أولُ وهيَ المحلُّ الثاني"، فالتسرع في إصدار الأحكام قد يُقصي
ما كان سيكون ذا شأن عظيم، وهذا ما حدث بالفعل مع العديد من الأشخاص، ومن بينهم "جيف
بيزوس" عندما بدأ متجره الإلكتروني البسيط "أمازون"، لم يكن كثيرون
يؤمنون بأن التسوق عبر الإنترنت سيصبح يوماً ما القوة الاقتصادية التي نعرفها
اليوم، لكنه انتظر اللحظة المناسبة، حتى تغيرت عادات المستهلكين، وصارت فكرته أساساً
للتجارة الحديثة.
كم من موهبة وُئدت لأنها لم تجد من
يمنحها الفرصة؟ وكم من مشروع أُهمل لأنه لم يتناسب مع مقاييس اللحظة الراهنة، لكنه
كان سيكون كنزاً لو انتظر قليلاً؟ تذكروا قصة ألبرت أينشتاين، الذي قيل عنه في
صغره إنه بطيء الفهم، قبل أن يصبح أحد أعظم العقول في التاريخ.
البشر سريعو الحكم، ويميلون إلى إصدار
قرارات قطعية دون أن يتركوا للأشياء مساحتها الطبيعية للنمو، لكن الحياة، في
حكمتها الخفية، تملك طرقها الخاصة لإثبات خطأ التسرع، وهذا الأمر لا يقتصر على
الأفراد فحسب، بل يمتد ليشمل الأعمال الأدبية أيضاً، فكم من عمل أدبي ظُلم في
زمنه، ثم سطع نجمه لاحقاً!، كرواية موبي ديك لـ "هرمان ملفيل" لم تلقَ
نجاحاً عند نشرها في القرن التاسع عشر، وكانت تُعتبر فشلاً أدبياً، لكن مع مرور
الزمن، أعاد النقاد تقييمها، وأصبحت واحدة من أعظم الروايات في التاريخ الأدبي.
ليس كل ما يبدو خامداً هو بلا نفع،
وليس كل ما تم تجاهله فقدَ قيمته!، الأشياء، كالبشر، تحتاج إلى وقتها، وإلى لحظتها
الخاصة التي تتفتح فيها، وتحتاج إلى ظروفها التي تجعلها تتألق بعد طول صمت!، تلك
الفكرة التي وُلدت في ذهنك ولم تلقَ التشجيع قد تكون أعظم ما فكرت فيه يوماً،
لكنها تنتظر اللحظة المناسبة، والمناخ الملائم، والأرض الخصبة التي تجعلها تمتد
وتنمو. قال جبران خليل جبران: "قد تنمو شجرة في الظل، لكنها لن تثمر إلا في
النور"، وهكذا هو الفكر، يحتاج إلى سياق يسمح له بأن يزدهر.
كم من كتاب كُتب قبل زمنه فلم يلقَ
اهتماماً، ثم جاء عصره فصار مرجعاً؟ وكم من شخص عاش منبوذاً لأنه لم يكن يشبه من
حوله، لكنه في لحظة ما، وفي بيئة أخرى، وجد نفسه أيقونةً للاختلاف الخلّاق؟ قال
الحسن البصري: "من عرف قدر نفسه لم يهِنها، ومن عرف قدر الناس لم
يحتقرهم"، فالقيمة ليست فيما يراه الناس، بل فيما تكون عليه الأشياء حقاً.
الحياة لا تُعطي القيمة دفعة واحدة،
إنها تُنضجها على نار هادئة، تختبر ثباتها، وتتركها في الظل حتى يحين وقتها، وهذا
الأمر يتجلى بوضوح في عالم الاختراعات والابتكارات، حيث كم من فكرة رائدة لم تلقَ
قبولاً في زمنها، ثم أصبحت أساساً للتقدم، كما حدث مع أفكار "نيكولا
تسلا" عندما اخترع العديد من أفكاره حول الكهرباء اللاسلكية، فلم يتقبلها
المجتمع العلمي في زمنه، وواجه رفضاً شديداً، ولكن بعد عقود، أدرك العالم عبقرية
أفكاره، وأصبح يُحتفى به كأحد أعظم العقول في الهندسة الكهربائية.
الحكم على الأشياء من مظهرها الأولي
خدعة وقع فيها البشر منذ الأزل، يظنون أنهم يرون الصورة كاملة، لكنهم يرون فقط ما
تسمح لهم به عيونهم، بينما الحقيقة تكمن أعمق من ذلك بكثير!، ليس كل صمت جهلاً،
وليس كل غياب ضعفاً، وليس كل تأخير فشلاً!، أحياناً، يكون ما نحسبه فراغاً مجرد
مساحة لم تكتمل ملامحها بعد، كلوحة تنتظر ضربات الفرشاة الأخيرة، أو نغمة لم يُكتب
لها الظهور في المعزوفة بعد، وهذا ما ينطبق أيضاً على الاكتشافات العلمية، فكم من
اكتشاف بقي مجهولاً لسنوات، ثم أحدث ثورة في مجاله، مثل اكتشافات "غريغور
مندل" في علم الوراثة الذي ظل مجهولاً
لعقود، ولم يدرك العلماء أهميته إلا بعد وفاته، ليصبح بعدها مؤسس علم الوراثة
الحديث.
أخيرا، علينا أن نمنح الأشياء وقتها، وأن
ندرك أن الفراغ قد يكون كنزاً ينتظر من يقدّر معناه، وأن ما يُهمل اليوم قد يكون
أثمن ما في الغد. قال المتنبي: "ما تأخر من كان له قدم، وما تقدم من لم يكن
له قَدم"، فالتوقيت ليس كل شيء، بل الاستعداد هو الفيصل!، فالحياة تعيد ترتيب
أولوياتها باستمرار، ترفع من شأن ما كان في القاع، وتضعف بريق ما كان في القمة،
فقط لأنها تفهم ما لا نفهمه نحن، وتمهل حين نظن أن كل شيء قد حُسم.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق