الثلاثاء، 18 مارس 2025

 

حكمة الفلاح: كيف ينمو المال كأنه حبة قمح؟ 

 

المال ليس مجرد أوراق نقدية تتناقلها الأيدي، ولا هو أرقام جامدة تتراقص على شاشات البنوك، بل هو كيانٌ حي، يتنفس بين أصابع من يفهم أسراره، وينمو بين يدي من يعي قوانينه. ليس من الضروري أن تطرق أبواب الجامعات الكبرى، أو تغرق في نظريات الاقتصاد والاستثمار، كي تدرك كيف تحوله من مادة قابلة للذوبان إلى قوة دائمة، فهناك رجالٌ لم يجلسوا على مقاعد الدراسة، لكنهم قرأوا الحياة بعين فاحصة، وحفظوا دروسها في قلوبهم، وكتبوا معرفتهم على صفحة الأيام، بخطٍّ واضحٍ لا تقبل محوه العواصف ولا تمحوه نظريات العصر المتبدلة.

 

هؤلاء هم الفلاحون، أولئك الذين لم يتلقوا دروساً أكاديمية في الاستثمار، لكنهم مارسوه بفطرةٍ نقية وعقلٍ مستنير، حتى صاروا خبراء في تدوير المال وتحويله من مجرد سيولةٍ عابرة إلى أصلٍ متجددٍ يثمر عاماً بعد عام. هم لا ينظرون إلى المال على أنه ثروةٌ تُكتنز، ولا يثقون بوعود المصارف التي تبتلع الأموال وتخرجها شاحبةً بهزائل الفوائد، ولا يغريهم بريق الأرصدة الرقمية التي تفقد روحها بمجرد أن تُحبس خلف شاشاتٍ بلا نبض!، إنهم يعرفون أن المال إذا ظلَّ ساكناً مات، وإذا تُرك جامداً ضاع، لذلك لا يسمحون له بأن يتحول إلى رقمٍ باردٍ في حساب، ولا يدعونه ينتظر في الأدراج حتى تلتهمه الحاجة، بل يحررونه ليعيش، لينمو، ليصبح كائناً فاعلاً في حياتهم، يعينهم كما يعينونه، ويمنحهم كما يمنحونه.

 

السر في فهمهم العميق لدورة الحياة!، إنهم يدركون أن المحصول لا يأتي فوراً، وأن الزمن ليس عدواً بل حليفٌ لمن يحسن التعامل معه، لذلك فهم لا يتركون المال وحيداً ليذوب بين النفقات اليومية، بل يزرعونه من جديد، كما يزرعون بذور القمح في الحقل، وكما يرمون حفنةً من الحبوب في الأرض، ويمضون مطمئنين إلى أن الأرض تعرف دورها، والمطر لن يخذلهم، والشمس ستقوم بعملها، حتى يأتي يوم الحصاد. الفلاح يرى المال بالطريقة ذاتها، فلا يبقيه جامداً، بل يمنحه فرصةً ليكبر، يشترون الماشية، يغرسون الحياة في بيوتهم، يضعون المال في مشروعٍ يدر عليهم ربحاً منتظماً، حتى إذا جاءت دورة الزمان، واستدار العام وعاد المحصول، وجدوا أيديهم ممتلئة، ليس بالمال وحده، بل بالحكمة أيضاً.

 

إنها حكمة ترفض الإسراف، وتكره التبذير، وتحذر من اليد المبسوطة التي تعتاد أن تأخذ حتى تجد نفسها فارغةً لا تملك إلا العجز. الفلاح لا يرى في المال حقاً مكتسباً، بل مسؤوليةً يجب إدارتها بحكمة!، لذلك، لا يعهد به إلى الديون، ولا يفرط في إقراضه بلا حساب، لأن المال إذا خرج بلا عودة صار مجرد قصةٍ حزينةٍ تتردد بين الناس عن أموالٍ لم تُرَد، ووعودٍ لم تُوفَ، وعلاقاتٍ تقطعت بسبب ما ظنوه معروفاً ثم تحول إلى عبء. الفلاح يؤمن أن الخير لا يكون خيراً إذا صار باباً للضعف، وأن الإحسان لا يكون إحساناً إذا أدى إلى الاعتماد على الآخرين.

 

ليس غريباً إذاً أن ترى الفلاح البسيط وقد بنى ثروةً متينة دون أن يقرأ كتاباً واحداً في الاقتصاد، أو أن يدرك قوانين السوق دون أن يحضر مؤتمراً اقتصادياً واحداً!، إنه لا يحتاج إلى شهادات تثبت حكمته، فهو يرى الدليل في كل صباح، وفي اللبن الذي يملأ أوعية أهل بيته، وفي صغار الماشية التي تكبر وتتحول إلى ثروةٍ جديدة، وفي المحاصيل التي تطرحها الأرض عاماً بعد عام، وفي دورة الحياة التي يفهمها بالفطرة دون حاجةٍ إلى مخططاتٍ وتعقيدات!، إنه يعلم أن المال ليس هدفاً بل وسيلة، وأن الغنى الحقيقي ليس في امتلاك الأوراق، بل في امتلاك الرؤية، وفي القدرة على تحويل أي موردٍ صغير إلى استثمار، وأي فرصةٍ عابرة إلى أساسٍ متين.

 

وهذا ما يجعل الفلاح متفوقاً على كثيرٍ من المتعلمين، فهو لا يخدع نفسه بوهم الرفاهية الزائفة، ولا يقع في فخ الاستهلاك الأعمى، ولا يجعل المال سيده، بل يبقى هو السيد الذي يعرف كيف يوجهه، وكيف يحفظه، وكيف يجعله دائم النمو، بحيث لا يكون مجرد رقمٍ في دفتر، بل قيمةٌ حقيقيةٌ تمنحه الاستقلال، وتمنحه الكرامة، وتمنحه القدرة على مواجهة الحياة دون خوف.

 

هذه الحكمة، التي قد تبدو بسيطةً لكنها عميقة، ليست محصورةً في قريةٍ دون أخرى، أو في أرضٍ دون سواها، بل هي عالميةٌ بامتياز، فهي صفةٌ يتميز بها كل من فهم المال على حقيقته، وكل من أدرك أن الادخار وحده لا يكفي، وأن الاستثمار ليس خياراً، بل هو ضرورةٌ لمن أراد أن يصنع لنفسه مستقبلاً آمناً، بعيداً عن تقلبات الأيام ومفاجآتها!، إنها ليست حكمة الفلاح وحده، بل هي حكمة الحياة ذاتها، التي تُعطي من يزرع، وتمنح من يفكر، وتفتح أبوابها لمن يتقن قراءة إشاراتها، حتى وإن لم يقرأ في حياته كتاباً واحداً عن الاقتصاد.

 

إن المال، حين يُحفظ كما هو، يكون كالماء الراكد، لا يلبث أن يتبخر أو يفسد، بينما حين يُحسن توجيهه، يتحول إلى نهر جارٍ، يسقي الأرض وينبت الخير!، هذه هي الفلسفة التي أدركها الفلاح، وهو ينظر إلى حقله الممتد تحت الشمس، ويدرك أن البذرة التي يودعها في الأرض اليوم، لن تعود إليه كما كانت، بل ستعود إليه مضاعفة، ناضجة، قابلة للحصاد، إنها ليست مجرد معادلة حسابية، بل هي درس في الثقة بالحياة، وفي فهم الإيقاع الخفي للزمن، وفي استيعاب أن لكل شيء دورة، ولكل زرع أوانٌ للحصاد، ولكل فكرة فرصة إن نُميت ورُويت بالصبر.

 

إنه الإدراك العميق بأن المال ليس غايةً بحد ذاته، بل وسيلةٌ للحفاظ على الاستقرار، وحبلٌ ممتد بين حاضر الإنسان ومستقبله، فكما يحرث الفلاح أرضه بيديه، ويراقب الغيوم بعيونه، ويحسب مواسم المطر في قلبه، يدرك أيضاً أن المال لا يجب أن يظل محبوساً في ركنٍ معتم، بل أن يُلقى في تربة خصبة، تضمن له نماءً لا يتوقف. لا يحتاج الفلاح إلى معادلاتٍ اقتصادية معقدة ليعرف هذه القاعدة، ولا إلى نظرياتٍ مصرفية ليحدد وجهته، هو فقط يتبع فطرته، التي تعلمت عبر الأجيال أن الثمار لا تأتي لمن يخاف الإنفاق، ولا لمن يجمع المال كما تُجمع الرمال في قبضة اليد، بل لمن ينفقه بذكاء، في موضعه الصحيح، وبحكمة من يدرك أن الزمن ليس عدواً، بل شريكاً في رحلة العطاء.

 

ليست البقرة التي يربيها الفلاح مجرد مصدر للحليب، وليست الدجاجة التي يعتني بها مجرد بيضة مؤجلة، بل هي فكرة حية عن كيفية تطويع الموارد، وعن رؤية بعيدة لا تنظر إلى اليوم فقط، بل إلى الغد وما بعده!، إنها فلسفة الاستثمار البسيطة والعميقة، التي لا تحتاج إلى أوراق رسمية أو تحليلات سوق، بل تحتاج إلى عينٍ تفهم إيقاع الطبيعة، وقلبٍ يثق في أن العطاء دائماً يعود أضعافاً مضاعفة لمن يحسن الانتظار.

 

هذا الفلاح، الذي لم يجلس يوماً على مقاعد الجامعة، يفهم ما قد يغيب عن كثير من دارسي الاقتصاد، فهو لا يُلقي ماله في مغامراتٍ عابثة، ولا يربطه بأوهام الكسب السريع، بل يزرعه حيث يعلم أن الأرض سترده إليه أضعافاً، كما علمته الفصول الأربعة أن لكل شيء وقته، وأن الحكمة الحقيقية ليست في جمع المال، بل في حسن تدويره، وفي تحويله من مجرد أرقامٍ ساكنة إلى حياةٍ تنبض بالنمو، كما تنمو الحقول تحت نور الشمس.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...