من المحلية إلى العالمية: قصة صعود الفن السعودي
والخليجي!
المشهد الفني العربي قبل صعود الفن السعودي!
في حقبة ليست ببعيدة، حينما كانت
السينما والمسرح يكتبان فصولهما على المسارح والشاشات العربية، كانت المنافسة
الفنية شرسة، وتحمل بين طياتها صراعاً ناعماً بين مصر ولبنان، ولم تكن تلك
المنافسة مجرد استعراض للأعمال الدرامية، بل كانت انعكاساً لهوية كل بلد وسعيه
لترك بصمته الخاصة في وجدان المشاهد العربي.
تفوقت مصر في المسرح، بينما حافظت
لبنان على بريقها في المسلسلات التي خاطبت الذائقة العربية بحسٍّ فني رفيع، وفي
زاوية أخرى من المشهد، كانت سوريا ترسم لنفسها موقعاً في قلب المسرح العربي، وتكتب
بحروف من شغف عروضاً بقيت في ذاكرة الجمهور عقوداً طويلة.
لكن الفن، كالماء، يجد طريقه حيثما
كان العطش إليه، فدخلت الكويت السباق، ورفعت راية الدراما الخليجية التي لم تكن
يوماً مجرد تقليد، بل كانت محاولة جادة لصناعة هوية خاصة بها، تترجم هموم
مجتمعاتها، وتقدم شخصياتها وقصصها بلغة خليجية صادقة، ومن بوابة المسلسلات، عبرت
الكويت إلى المسرح، متبنية النهج المصري لكنها أضافت إليه روحها الخاصة، لتجد
لنفسها مكاناً بارزاً في المشهد الفني العربي، أما الأردن، فقد ربطت نفسها منذ
البداية بالأفلام البدوية، حيث كانت الصحراء مسرحاً مفتوحاً للحكايات، وصوت الريح
فيها شاهداً على ملاحم البطولة والتقاليد العريقة التي لم ينافسها أحد فيها حتى
اليوم.
وفي هذه اللوحة الفنية التي توزعت بين
بلدان العالم العربي، كان الفن السعودي يتحسس طريقه، ويتلمس خطواته الأولى في
دروبٍ لم تكن معبّدة!، ولم يكن الأمر نقصاً في الموهبة، بل افتقاراً للدعم والخطط
الواضحة التي ترسم للفنان السعودي طريقه نحو التميز.
البدايات الخجولة للفن السعودي!
بدا الفن السعودي آنذاك وكأنه مجموعة
محاولات فردية، يشق فيها كل فنان طريقه وحده، بعيداً عن مشروع وطني متكامل، لم يكن
ذلك تقصيراً منهم، بل لأن الريح لم تكن تدفع أشرعتهم بعد!، كانت محاولاتهم تظهر
هنا وهناك، كأطياف في الدراما الكويتية والمسلسلات البدوية الأردنية، وأحياناً
كمشاركات خجولة في الإنتاجات المصرية، حيث وجد بعضهم فرصة لاكتساب الخبرة قبل أن
يعودوا ليحملوا على عاتقهم مسؤولية ولادة الفن السعودي من جديد.
ومع ازدياد الطموح واتساع الأفق، بدأ
الفن السعودي يبحث عن مساحة أوسع، محاولاً تجاوز الحدود الضيقة التي فرضتها
البدايات المتفرقة، فقد بدأ مشوار الفن السعودي بخطوات خجولة، رغم بعض المحاولات
الناجحة التي بقيت محدودة، ومع مرور الوقت، شهدت الساحة الفنية تطوراً ملحوظاً،
خاصة من خلال التجربة الخليجية المشتركة التي قدمت إنتاجاً برامجياً ناجحاً، وإن
كان يميل إلى الطابع التعليمي، لا سيما في مجال مسلسلات الأطفال، ورغم بروز بعض
الأعمال الدرامية والسينمائية الخليجية، إلا أن هذه التجربة لم تكتمل كما كان
متوقعاً، إذ تلاشت أعمال الهيئة المشتركة مع الزمن لأسباب بقيت غير واضحة للجمهور
العربي.
كان الزمن حينها يعمل ببطء، لكن
الإرادة الصامتة كانت تنضج في الخفاء، وكأنما كان الفن السعودي ينتظر اللحظة
المناسبة، اللحظة التي ستمكنه من الظهور بهوية واضحة لا تقبل الذوبان في تجارب
الآخرين.
نحو هوية فنية سعودية مستقلة!
وحين آن أوان النهوض، لم يكن الفن
السعودي مجرد امتداد لتجارب سابقة، بل بدا وكأنه صوت جديد، يولد من رحم الصمت
الطويل، محاولاً إثبات ذاته في مشهد عربي مزدحم، لم تكن الخطوة سهلة، فالأعمال
الأولى بدت وكأنها تبحث عن هويتها بين التأثيرات الخارجية، تارة تحمل بصمة خليجية
مستمدة من التجربة الكويتية، وتارة تتكئ على أنماط درامية عربية أوسع، كما لو أن
الفنان السعودي كان يختبر الألوان قبل أن يختار منها ما يناسب لوحته الخاصة.
لكن التجربة لم تكن مجرد محاكاة، بل
نضجت تدريجياً، مستفيدة من كل ما سبقها، حتى بدأت معالم الفن السعودي تتشكل بوضوح،
ولم يعد الظهور السعودي في المسلسلات والسينما مجرد مشاركة أو دور ثانوي، بل أصبح
الإنتاج ذاته يحمل الهوية السعودية بامتياز، يروي قصصه الخاصة، ويتحدث بلغته
الفنية التي لم تعد تتوسل الاعتراف، بل تفرض حضورها بثقة. قال بيكاسو ذات يوم:
"التقليد فعل عبودية، أما الابتكار فهو الحرية الحقيقية"، كان لا بد
للفن السعودي من أن يتحرر من التقليد ليصنع بصمته الخاصة، تلك التي تجعله حاضراً
لا بكونه تابعاً، بل بصفته منافساً حقيقياً.
ورغم البدايات الخجولة، فإن السعودية
سرعان ما أدركت أن الفن ليس مجرد ترف، بل قوة ناعمة قادرة على نقل ثقافتها
وتاريخها إلى العالم، فبدأت المشاريع الطموحة تنبثق واحدة تلو الأخرى، وجاءت مرحلة
الإنتاجات الضخمة التي لم تكن تسعى فقط للوصول إلى المشاهد الخليجي أو العربي، بل
إلى المنصات العالمية، حيث أصبح الفنان السعودي يخطو نحو السينما العالمية بثقة لم
تكن مألوفة من قبل.
ولأن الفن لا يزدهر إلا في بيئة
تحتضنه، بدأت السعودية بتوفير البنية التحتية التي تدعمه، من إنشاء استوديوهات
ضخمة، إلى تنظيم مهرجانات سينمائية تعطي للفن السعودي منصة يستحقها!، كان الأمر
أشبه بمحاولة استدراك ما فات، لكن بروح متعطشة لاكتساب المكانة التي طال انتظارها،
إذ كانت كل التحديات التي واجهها الفن السعودي مجرد درجات في سلم الصعود، وكل
تأخير لم يكن سوى خطوة نحو نضج كان لا بد أن يأتي في وقته المناسب.
وفي ظل هذه التحولات، لم تعد السعودية
تكتفي بأن تكون مجرد جزء من المشهد الفني العربي، بل أصبحت تفكر أبعد من ذلك، تفكر
في أن تكون مركزاً رئيسياً للفن، ليس في الخليج فقط، بل على مستوى أوسع، حيث يصبح
الفن السعودي علامة فارقة، قادرة على أن تترك أثراً لا يُمحى.
بالفعل، هذه الرؤية الطموحة لم تكن
مجرد أحلام عابرة، بل كانت شرارة انطلقت لتشعل فتيل الإبداع السعودي، وتدفع
الفنانين والمبدعين إلى تقديم أعمال فنية ترتقي إلى مستوى التطلعات، وهكذا، بدأت
رحلة الفن السعودي نحو العالمية، بخطوات واثقة وثابتة، مدعومة بإيمان قوي بالقدرات
والإمكانات الكامنة، ومستلهمة من تراث ثقافي غني ومتنوع، يزخر بالقصص والحكايات
التي تنتظر من يرويها للعالم.
وكلما اتسعت الرؤية، ازداد الأفق
رحابة!، لم يعد السؤال يدور حول إمكانية صعود الفن السعودي، بل حول مدى قدرته على
تجاوز حدوده، ليصبح صوتاً عالمياً يحمل بصمته الفريدة!، كان الحلم يتبلور شيئاً
فشيئاً، مدعوماً بإنتاجات بدأت تكتسب ثقة المشاهد العربي، وتستقطب اهتمام المنصات
العالمية التي لم تكن تنظر يوماً إلى الخليج كمصدر لأعمال ذات ثقل درامي وسينمائي.
ومن هذا المنطلق كان لا بد من تغيير
داخلي، من إعادة تعريف للهوية الفنية السعودية، بحيث لا تكون مجرد انعكاس لتجارب
الآخرين، بل تجربة قائمة بذاتها، تنبض برؤيتها الخاصة، ومن هنا بدأ التفكير يتجاوز
الإنتاجات الفردية، ليبحث عن نسيج فني أكثر تماسكاً، فالسعودية لم تكن وحدها في
هذا الطموح، فإلى جوارها، كانت الكويت تمتلك تاريخاً طويلاً في المسرح والتلفزيون،
والخليج كله يحمل مخزوناً ثقافياً لم يُستثمر بعد بشكل كامل.
نحو تعاون فني خليجي وعربي!
بدا واضحاً أن الفن الخليجي، رغم تعدد
ألوانه، يمكنه أن يجتمع تحت مظلة واحدة، لا لتذويب خصوصياته، بل لتعزيزها، ليصبح
قوة فنية منافسة، قادرة على تقديم محتوى يجمع بين الأصالة والتجديد، وبناء على
ذلك، أصبح الحديث عن تعاون خليجي في المجال الفني أكثر من مجرد فكرة عابرة.
بناءً على هذا التصور، ماذا لو اجتمعت
الخبرات السعودية والكويتية في إنتاجات مشتركة؟ ماذا لو انضمت إليهما الإمارات والبحرين
وقطر، وامتد هذا النسيج ليشمل باقي الدول العربية، وصولاً إلى صياغة هوية فنية
عربية متكاملة؟ لم يكن الأمر مجرد حلم طوباوي، بل مشروع يمكن بناؤه على أسس واضحة،
حيث تلتقي الفنون، لا لتتنافس، بل لتكمل بعضها البعض، تماماً كما تفعل الألوان في
لوحة واحدة.
أهمية الرؤية والاستراتيجية والدعم المؤسسي!
لكن النجاح لا يصنعه الحلم وحده، بل
يحتاج إلى رؤية واستراتيجية، إلى دعم مؤسساتي، وإلى بيئة تحتضن الفنانين وتمنحهم
المساحة ليبدعوا دون قيود. قال جان كوكتو: "الفن يخلق المستقبل"، فإن أي
مشروع فني لا بد أن يُنظر إليه كاستثمار طويل الأمد، وكقوة قادرة على التأثير ليس
فقط في الجمهور المحلي، بل في العالم بأسره.
وفي هذا المسار، يمكن للسعودية أن
تقود نهضة فنية تتجاوز الحدود التقليدية، لتضع بصمتها في المحافل الدولية، لا
كمتفرج، بل كمشارك أساسي، ومع انفتاحها على العالم، أصبحت الفرصة أكبر من أي وقت
مضى، فرصة لصناعة سينما سعودية قوية، ومسرح خليجي مزدهر، ودراما عربية قادرة على
التحدث بلغة إنسانية تصل إلى كل مكان.
وهكذا، بعد عقود من البحث عن الهوية،
وبعد سنوات من الخطوات المتفرقة، بات الفن السعودي اليوم على أعتاب مرحلة جديدة،
مرحلة لا يُنظر فيها إليه كظاهرة مؤقتة، بل كحركة فنية لها جذورها وأهدافها، وما
كان يوماً مجرد محاولات فردية، أصبح اليوم مشروعاً متكاملاً، ينتظر فقط أن يُكتب
له الفصل الأهم: الانتقال من المحلية إلى العالمية، ليس بتقليد الآخرين، بل بأن
يكون هو ذاته، كما هو، متفرداً، وصادقاً، ونابعاً من روح أرضه وثقافته.
كان الحلم الفني الخليجي دائماً أشبه
بلحن جميل لم تكتمل نغماته بعد، حيث تتجاور الألوان الثقافية دون أن تندمج تماماً
في لوحة واحدة، ورغم النجاحات الفردية، ظل الطموح الحقيقي يكمن في إيجاد صيغة
تعاونية تعزز الفن الخليجي ليصبح قوة إبداعية متماسكة، قادرة على المنافسة في
الساحة العالمية، لا كمجرد متابع، بل كمصدر للإلهام والتأثير.
وبالنظر إلى المشهد الأوسع، لم يكن
التعاون الخليجي في مجال الفن رفاهية، بل ضرورة تفرضها متطلبات العصر، حيث لم تعد
صناعة الفن تعتمد على الجهود الفردية، بل على منظومات مؤسسية تمتلك رؤية واضحة،
تدعم الإبداع، وتوفر بيئة خصبة للفنانين، فالفن، كما قال بابلو بيكاسو، "هو
الكذبة التي تجعلنا ندرك الحقيقة"، وإن لم يحمل في جوهره رؤية جماعية، سيظل
أسير التجارب المنعزلة التي تفتقر إلى الامتداد والاستمرارية.
ولتحقيق ذلك، كان بإمكان التعاون
الخليجي أن يبدأ من نقطة بسيطة، كمؤسسة مشتركة تُعنى بدعم الإنتاجات الدرامية
والمسرحية، وتفتح الأبواب أمام المواهب الشابة، وتوفر منصة تتيح تبادل الخبرات بين
المبدعين من مختلف دول الخليج، فمثلما اجتمع الحرفيون يوماً لصناعة أجمل أنماط
العمارة الإسلامية، كان بإمكان الفنانين اليوم أن يجتمعوا لصياغة هوية فنية
تمثلهم، وتعكس روح مجتمعاتهم.
أما دور الحكومات، فلم يكن يقتصر على
التمويل فحسب، بل على وضع استراتيجيات طويلة الأمد تضمن أن يكون الفن جزءاً من
الرؤية الوطنية لكل دولة، تماماً كما فعلت دول نجحت في جعل الفنون محركاً اقتصادياً
وثقافياً، مثل كوريا الجنوبية التي حولت صناعتها السينمائية إلى قوة ناعمة جعلت
ثقافتها تصل إلى كل بيت في العالم!، وإن كانت الفنون جزءاً من هوية الشعوب، فإن
دعمها يعني تعزيز هذه الهوية، وإعطاء الفنانين فرصة ليكونوا صوت أوطانهم، لا مجرد
أفراد يسعون خلف النجومية.
لا يقتصر الأمر على ذلك، بل كان للفن
التعليمي دور محوري، لا من حيث كونه أداة لتعليم المهارات فقط، بل باعتباره وسيلة
لصياغة وعي الأجيال القادمة، وترسيخ القيم المجتمعية!، فكم من فيلم أو مسلسل شكل
وجدان المشاهد أكثر مما فعلت آلاف المحاضرات؟ وكما قال أفلاطون: "دعني أصنع
أغاني شعبك، ولا يهمني من يكتب قوانينه"، فإن تأثير الفن يفوق أحياناً تأثير
السياسات والأنظمة، وهو ما يجعل توجيهه نحو بناء العقول أولوية لا تقل أهمية عن أي
مشروع تنموي آخر.
لكن الأهم من ذلك كله كان تحقيق هوية
فنية موحدة، ليس بمعنى إلغاء التنوع، بل بجعل هذا التنوع مصدر قوة!، أن تكون هناك
أعمال تمثل الخليج بكل تناقضاته الجميلة، تحكي قصصه، وتبرز قيمه، دون أن تفقد
روحها المحلية في محاولة للتشبه بالآخرين، هذه الهوية لم تكن مجرد شعار، بل كانت
حجر الأساس لأي مشروع يهدف إلى وضع الفن الخليجي على خارطة التأثير العالمي.
أما الوصول إلى العالمية، فلم يكن
مجرد حلم بعيد المنال، بل كان يتطلب استراتيجيات مدروسة، تبدأ من الاستثمار في
المحتوى عالي الجودة، والترويج له بطرق تتماشى مع العصر الرقمي، حيث أصبح الوصول
إلى الجمهور العالمي أسهل من أي وقت مضى!، كان الأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد
إنتاجات ناجحة، بل إلى رؤية تجعل من الفن الخليجي قوة ثقافية يمكنها أن تترك
بصمتها في السينما العالمية، والمسرح، والدراما التلفزيونية، تماماً كما فعلت دول
استطاعت أن تصنع لنفسها مكاناً في المشهد الفني الدولي.
نحو العالمية: الجودة والأصالة!
وهكذا، فإن كل خطوة نحو تعزيز
التعاون، ودعم الفنانين، وصياغة هوية واضحة، لم تكن مجرد أفكار عابرة، بل كانت
اللبنات الأولى لمستقبل يمكن أن يكون للفن الخليجي فيه صوته الخاص، القادر على أن
يُروى للعالم، لا كنسخة مكررة، بل كإبداع أصيل، يعكس حضارة ممتدة في عمق الزمن،
وتحمل في طياتها من الجمال ما يستحق أن يُرى ويسمع ويُخلد.
وفي هذا الصدد، لم تكن مسألة ترفٍ أو
مجرد حلم بعيد المنال، بل كانت نتيجة طبيعية لتطور مستمر، حيث لا يتحقق التميز إلا
بالاستثمار في الجودة، لا بمجرد السعي للظهور، لم يكن المطلوب إنتاج أعمال بغرض
التصدير إلى الخارج فقط، بل تقديم فن نابع من الواقع الخليجي، يحمل روحه وهويته،
لكن بقالب فني قادر على أن يلامس الوجدان الإنساني أينما وُجد.
لقد أثبتت التجارب العالمية أن الفن
الصادق هو الأكثر وصولاً، فحين قدمت السينما الإيرانية أعمالها التي تتناول الحياة
اليومية، لم تحتج إلى ميزانيات ضخمة أو تقنيات هوليوودية، بل إلى قصص صادقة، ورؤية
إخراجية متميزة، وكذلك فعلت السينما الكورية، التي لم تحاول تقليد الغرب، بل حفرت
مكانها الخاص حتى أصبحت اليوم تنافس في أكبر المهرجانات العالمية.
وهذا ما كان على الفن الخليجي أن يسعى
إليه؛ أن يكون مرآة لمجتمعاته، لا مجرد صدى لأصوات أخرى، أن يُروى باللهجات
المحلية دون خوف من عدم فهمها، فالعالم أصبح أكثر انفتاحاً على التنوع، ولم تعد
اللغة عائقاً أمام انتشار الأعمال الفنية، كما أثبتت المنصات الرقمية التي جعلت
المسلسلات الكورية والتركية والإسبانية تصل إلى المشاهد العربي والعالمي دون أن
تفقد هويتها الأصلية.
لكن بناء مشروع فني بهذا الطموح لم
يكن ليكتمل دون خلق صناعة متكاملة، تتضمن كتاباً متمرسين، ومخرجين قادرين على
تقديم رؤى إبداعية، وممثلين موهوبين يجدون بيئة تدعمهم، بدلاً من أن يضطروا للبحث
عن فرص خارج حدودهم، وهنا، كان لا بد من مؤسسات تدريبية متخصصة، تُخرّج أجيالاً
جديدة قادرة على رفع مستوى الإنتاج الفني، بدلاً من الاعتماد على الاجتهادات
الفردية التي، رغم أهميتها، لا تصنع صناعة مستقرة.
لقد كانت السينما والمسرح والموسيقى
دائماً انعكاساً لحالة المجتمعات، وإذا كان الخليج قد شهد تحولات كبرى في العقود
الأخيرة، فإن فنه كان عليه أن يعكس هذه التحولات، لا أن يبقى أسير الماضي أو
محاولات التقليد!، كان عليه أن يكون جريئاً، لا في تخطي الخطوط الحمراء لمجرد
إثارة الجدل، بل في طرح أسئلة عميقة، وفي تقديم أعمال تتحدى المألوف، وتجعل
المشاهد يفكر، لا فقط يتابع.
نحو مستقبل واعد للفن الخليجي!
وكل هذا لم يكن ليحدث بين ليلة
وضحاها، فبناء هوية فنية يستغرق وقتاً، تماماً كما يستغرق بناء أي مشروع حضاري
كبير، لكن ما يميز هذه المرحلة أن الأسس باتت أكثر وضوحاً، والدعم أصبح أكثر
استقراراً، والطموح لم يعد مجرد فكرة حالمة، بل رؤية يجري تنفيذها على أرض الواقع.
في النهاية، لم يعد السؤال: "هل
يمكن للفن الخليجي أن يصل إلى العالمية؟" بل أصبح: "متى وكيف سيصل
إليها؟" فقد بدأ المشهد يتغير، وأصبحنا نرى إنتاجات تحظى باهتمام أوسع، ونقاداً
عالميين يتحدثون عن تجربة سعودية أو كويتية أو إماراتية كما يتحدثون عن تجارب دول
تمتلك تاريخاً فنياً أطول، وهذه ليست إلا البداية، فالعالم لا يمنح مكاناً إلا لمن
يستحقه، ومن الواضح أن الفن الخليجي قد بدأ يشق طريقه ليكون أحد الأصوات التي لا
يمكن تجاهلها.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق