الثلاثاء، 18 مارس 2025

 

حين يصبح المرض سرّاً: خوفٌ أم كبرياء؟

 

لقد عشتُ ما يكفي لأدرك أن الناس مختلفون، ليس فقط في طباعهم وأمزجتهم، بل في أفكارهم ومعتقداتهم التي تتشكل عبر الزمن، تماماً كالنقوش على الحجر!، عرفتُ في حياتي أصدقاءً، وزملاء عملٍ، وجيراناً، وأقرباء، ولكلٍّ منهم أثرٌ في ذاكرتي، بعضهم يمر كنسمةٍ خفيفة لا تترك أثراً، وبعضهم يحفر في القلب حفرةً عميقةً لا تردمها السنوات، لكنّ هناك مجموعةً صغيرة، أقلّ من أن تُرى في زحام العلاقات، وأكثر تأثيراً مما قد يُظن، لفتت انتباهي بطريقةٍ لا تخلو من الغرابة!، لا أعرف كيف أصف معتقدهم بالضبط، لكنني سأحاول الاقتراب منه، ربما أجد تفسيراً، وربما أترك مزيداً من الأسئلة التي لن يُجاب عنها.

 

يؤمن هؤلاء الناس بأن الله كرم بني آدم، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأن من أسمى معاني هذا التعارف هو المساندة في أوقات المحن، وعيادة المريض، والوقوف إلى جانب من يمر بضعفٍ جسدي أو نفسي، هكذا علّمنا ديننا، وهكذا تقتضي الفطرة الإنسانية، غير أن هؤلاء، وبطريقةٍ غريبة، يَرَون المرض سرّاً لا يجب أن يُذاع، كأنّ في كشفه انتقاصاً من كرامتهم، أو انكشافاً غير مستحبّ لضعفهم أمام الآخرين.

 

إذا مرض أحدهم، لا يُعلن الأمر، ولا يُطلب الدعاء له، بل يظل الخبر محصوراً بين جدران البيت، كأنه خطيئةٌ يجب أن تُخفى!، لا أحد يزورهم، ولا أحد يعلم، وكأن المرض لم يحدث من الأساس، وإذا تجرأت وسألت عن أحدهم، جاءك الردُّ غامضاً، مضبباً، متحفظاً، كأن السؤال ذاته نوعٌ من التجاوز غير المقبول.

 

لماذا يفعلون ذلك؟ هل يرون المرض عاراً؟ أم يخشون الشماتة؟ أم أن الخوف من الحسد والعين استبدّ بهم حتى باتوا يطوون كل شيءٍ تحت جناح الصمت؟ لا أدري، لكنّ المفارقة العجيبة أنهم يحرصون على زيارة المرضى الآخرين، يدعون لهم، ويواسونهم، ويظهرون كل صور الدعم، بينما هم أنفسهم يرفضون أن يُعاملوا بالمثل! كيف يستقيم ذلك؟ كيف يحيون بين الناس وهم ينكرون عليهم أبسط حقوقهم في المشاركة الإنسانية؟ هل هو خوفٌ من نظرات الشفقة؟ أم كبرياء يأبى أن يُرى صاحبه ضعيفاً؟ أم هروبٌ من مواجهة هشاشتهم أمام العالم؟ ربما يظنون أن مجرد الاعتراف بالمرض يجعلهم في موضع أضعف مما يحتملون، وربما يؤمنون، في أعماقهم، أن الألم شأنٌ خاص، لا يشارك فيه أحد إلا صاحبه وحده.

 

أتذكر أثراً مما قيل قديماً: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان"، لكنّ المرض ليس حاجةً تُسعى، ولا طموحاً يُحفظ من الأعين حتى يتحقق!، المرض نداءٌ للمواساة، وطلبٌ غير منطوق للدعاء، واعترافٌ بأن الإنسان ضعيفٌ، يحتاج إلى غيره مهما تظاهر بالقوة. ليس كل صمت حكمة، وليس كل كتمان قوة، أحياناً يكون الصمت سجناً يضاعف الألم، ويجعل صاحبه وحيداً في معركته، بينما كانت كلمة واحدة كفيلة بأن تفتح له أبواب الدعم والمساندة.

 

حين أرى هؤلاء الناس، أتخيلهم كأبطال في روايةٍ سريالية، حيث لا مرض، لا ضعف، لا شكوى، كأنهم كائناتٌ فوق بشرية، محصنة ضد العلل، لكن الحقيقة أنهم مثلنا جميعاً، يمرضون، ويتألمون، ويخافون، غير أن خوفهم مضاعف، ليس من المرض ذاته، بل من أن يُكشف أمرهم، ومن أن تُدرك الناس أنهم – في النهاية – بشرٌ لا أكثر!، إنهم يقاتلون مرضهم في عزلة، ويحاولون هزيمته كما لو كان خصماً في معركة شرف، لا يعترفون بالوهن حتى أمام أقرب الناس إليهم، كأن الضعف سيفٌ مسلطٌ على كبريائهم.

 

ربما هم يعيشون في قوقعةٍ من الهواجس، أو ربما خُدعوا بموروثات جعلتهم يظنون أن الكشف عن الألم يزيده، وأن مشاركة الوجع عبءٌ على الآخرين، وربما، وهذا الأرجح، هم يحتاجون إلى من يطرق عليهم أبواب العزلة، ليقول لهم: ليس في المرض فضيحة، وليس في الضعف مهانة، وأن اليد التي تمتد بالدعاء أقوى من أي خوف، وأقرب إلى الشفاء من أي دواء، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، خلق ليعيش في مجتمعٍ يتقاسم معه أفراحه وأتراحه، فلماذا يُصرُّ البعض على أن يواجهوا المرض وحدهم؟ ولماذا يختارون أن يكونوا جزراً منعزلة في محيط الحياة؟

 

هل ستغيّر هذه الكلمات من قناعاتهم؟ ربما لا، لكن الأهم أن نبقى متسامحين، وأن نحاول فهم الآخرين، حتى لو بدا اختلافهم غريباً، فبعض القناعات لا تُكسر بالمنطق، بل بالوقت، وبعض الجدران لا تُهدم بالجدل، بل بلمسة حانية، تكفي أحياناً ليفتحوا النافذة، ويروا الحياة خارج مخاوفهم، وربما، ذات يوم، يدركون أن في المشاركة قوة، وفي البوح شفاءً، وأن الحياة أثمن من أن تُقضى في صمتٍ يخنق الروح، ويزيد الألم ألماً.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...