الأحد، 23 مارس 2025

 

رقصات الضوء والظل: رحلة الإنسان بين الخطأ والصواب!

 

في مسرح الحياة، حيث يتراقص النور مع الظل، يتحرك الإنسان بخطوات مترددة بين الصواب والخطأ، كما لو كان يؤدي رقصة معقدة لا يدري إن كان يتقنها، أم أنه مجرد متدرب أزلي لا يصل إلى الإتقان!، فكل تجربة يخوضها، وكل قرار يتخذه، وكل فكرة تمر بعقله، كلها تشكل إيقاعاً خفياً لهذه الرقصة!، فهل الخطأ مجرد تعثر عابر، أم أنه درس يفتح الأبواب إلى إدراك أعمق؟ وهل الصواب نهاية الرحلة، أم أنه محطة مؤقتة قبل أن تظهر حقيقة جديدة تدعونا إلى إعادة النظر؟

 

إن الخطأ والصواب ليسا مجرد مفهومين متقابلين، بل هما نبضان مستمران في نسيج الحياة، يتحركان بنا كما يحرك المدّ والجزر أمواج البحر!، لا أحد يسير على خط مستقيم خالٍ من التعثرات، فالبشر يولدون بحس استكشافي، ويتعلمون عبر التجربة، ويخطئون ويصححون، ويضلّون الطريق ثم يجدونه من جديد!، قد يظن أحدهم أنه بلغ قمة الصواب، ليكتشف لاحقاً أن القمة لم تكن سوى منعطف في طريق أكثر تعقيداً مما ظن!، هكذا تتبدل الرؤى، وتتشابك التصورات، حتى ندرك أن هذه الرقصة لا تنتهي، وأن تمايلنا بين الخطأ والصواب ليس ضعفاً، بل هو جوهر الرحلة الإنسانية.

 

في هذه الرقصة المستمرة بين النور والعتمة، لا يملك الإنسان سوى أدواته الداخلية التي تساعده على اجتياز المتاهة، فبعضهم يعتمد على ذكائه، مستنداً إلى حدسه وتحليله للمواقف، بينما يجد آخرون في القيم والمبادئ التي تربّوا عليها بوصلةً تهديهم وسط التيه، ولكن، هل تكفي هذه الأدوات وحدها؟ أم أن الإنسان بحاجة إلى شيء آخر، أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً، ليميز الخطأ من الصواب؟

 

التجارب هي النور الذي يضيء طريقنا في ظلام الجهل، كل خطوة نخطوها، وكل خطأ نرتكبه، هو درس نتعلم منه، فالتجارب ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي محطات نكتشف فيها ذواتنا ونصقل مهاراتنا. يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم". التجارب تعلّمنا أن الخطأ ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لفهم أعمق للحياة.

 

الخبرة، من جهتها، هي الثمرة التي نجنيها من شجرة التجارب، فكلما مررنا بتجارب أكثر، أصبحت نظرتنا للحياة أكثر نضجاً، فالخبرة تساعدنا على تحسين قراراتنا وتجنب تكرار الأخطاء. يقول الحسن البصري: "العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيمه، والصبر أمير جنوده". الخبرة هي التي تجعلنا نعتمد على العقل والحكمة في تقدير الخطأ والصواب.

 

المبادئ والقيم هي البنية التحتية التي تقوم عليها شخصية الإنسان، فالتربية السليمة تغرس فينا القيم التي تساعدنا على التمييز بين الخطأ والصواب. يقول الشاعر أحمد شوقي: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". بدون المبادئ والقيم، نفقد القدرة على الحكم الصحيح، ونصبح كسفينة بلا شراع في بحر الحياة.

 

لكن المبادئ ليست دائماً مطلقة الثبات، إذ إن الحياة تكشف لنا أن بعض الأحكام التي كبرنا عليها قد تتطلب إعادة نظر!، هل كل ما تعلمناه عن الصواب والخطأ هو حقيقة خالدة؟ أم أن الزمان والمكان قادران على تغيير معاني الأشياء؟ إن المبادئ تُختبر عند المواجهة، وقد يكتشف المرء في لحظة معينة أن الصواب ليس كما كان يظن، وأن الظل الذي هرب منه قد يحمل في داخله نوراً خفياً لم يكن يراه من قبل.

 

أما الذكاء فهو النور الذي يضيء عقولنا، بينما الغباء هو الظل الذي يحجب الرؤية، فالذكاء يساعدنا على تحليل المواقف واتخاذ القرارات الصائبة، بينما الغباء قد يقودنا إلى الوقوع في الأخطاء. يقول ابن خلدون: "الذكاء هو القدرة على فهم العلاقات بين الأشياء". ولكن الذكاء وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالحكمة والخبرة.

 

أما الموهبة، فهي اللمسة الإلهية التي تميّزنا، وهي تساعدنا على الإبداع والابتكار، لكنها تحتاج إلى صقل وتطوير. يقول الشاعر نزار قباني: "الموهبة هي أن ترى ما لا يراه الآخرون". الموهبة تمنحنا القدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، مما يساعدنا على تقدير الخطأ والصواب بشكل أفضل.

 

في أعماق النفس، حيث تختبئ مخاوف الإنسان وأحلامه، يتجلى الصراع الأبدي بين الخطأ والصواب، وكأنهما قوتان تتجاذبان روحه في رقصة لا تنتهي!، ليست الحياة مجرد سلسلة من القرارات التي يمكن تصنيفها بسهولة، بل هي فسيفساء معقدة من التجارب، حيث تتداخل القيم بالمصالح، والمشاعر بالعقل، والرغبات بالمبادئ. فمتى يكون الإنسان مخطئاً حقاً؟ ومتى يكون على صواب؟ أهو حكم مطلق، أم مجرد منظور يتغير مع الزمان والمكان؟

 

الانفعالات هي العاصفة التي تهز يقيننا أحياناً، وتدفعنا لاتخاذ قرارات لم نكن لنفكر بها في هدوء!، فالغضب قد يجعلنا نرى الصواب خطأ، والخوف قد يجعلنا نتردد أمام قرار لا يحتمل التأجيل، والحب قد يطمس الحقائق، أو يجعلها أوضح من أي وقت مضى!، إن الإنسان كائن متقلّب، وما يراه واضحاً اليوم قد يصبح مشوشاً غداً، وما يبدو له استحالة قد يصير حقيقة حين تتغير ظروفه.

 

وفي خضم هذه الرقصة بين الخطأ والصواب، قد يجد الإنسان نفسه مرهقاً، متسائلاً إن كان هناك معيار نهائي للحكم!، هنا تظهر فكرة النسبية، فليس كل خطأ يعني فشلاً، وليس كل صواب يعني انتصاراً، فقد يكون الفشل درساً ضرورياً للنضج، وقد يكون النجاح مجرد وهم مؤقت!، إن الوعي بهذه الحقيقة هو ما يجعل الإنسان أكثر انفتاحاً على التعلم، وأكثر قدرة على تقبل نفسه كما هي، بضعفها وقوتها، بأخطائها وإنجازاتها، دون أن يقع في فخ جلد الذات أو تضخيم الأنا.

 

وبالنسبة للذاكرة فهي سجل الحياة، تحفظ لنا أخطاءنا ونجاحاتنا، لتكون مرجعاً في اتخاذ قرارات المستقبل. يقول ابن سينا: "الذاكرة هي كنز العقل". ومن دون هذا الكنز، يكرر الإنسان أخطاءه وكأنه يدور في دائرة مغلقة، غير قادر على الاستفادة مما مضى!، إن من يملك ذاكرة حية يتعلم كيف يتجنب الوقوع في الفخ نفسه مرتين، ويعيد قراءة تفاصيل ماضيه ليصوغ مستقبله بحكمة أكبر.

 

حين تهبّ عاصفة المشاعر، يصبح العقل سفينة تتقاذفها الأمواج!، فالغضب، والخوف، والحزن، والفرح الشديد، كلها قد تجعل الإنسان يرى الأمور بغير وضوح. يقول الإمام الغزالي: "الانفعالات هي أعداء العقل". ولهذا، من لا يتقن ضبط مشاعره يقع فريسة لاتخاذ قرارات متسرعة، يندم عليها لاحقاً حين تهدأ العاصفة وتنكشف الرؤية.

 

ما يراه أحدهم خطأ، قد يراه الآخر صواباً، وما يبدو لنا يقيناً اليوم قد يصبح وجهة نظر قابلة للنقاش غداً!، فالحقيقة ليست دائماً مطلقة، بل تتلون بزاوية الرؤية التي ننظر منها. يقول ابن عربي: "الحقيقة نسبية، تختلف باختلاف الناظرين". إدراك هذه النسبية يجعل الإنسان أكثر تسامحاً وتفهّماً لوجهات النظر المختلفة، بدلاً من الوقوع في فخ الأحكام المطلقة.

 

المعرفة هي السراج الذي ينير طريق الإنسان، فمن دونها يصبح العقل معتماً، عاجزاً عن التمييز بين الصواب والخطأ. يقول ابن خلدون: "المعرفة هي أساس الحضارة". وحين يتسلح الإنسان بالعلم والمعرفة، يكون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مبنية على فهم عميق، لا على مجرد تقليد أعمى أو خرافات متوارثة.

 

لا يمكن الحكم على أي أمر دون ميزان، والعدالة هي هذا الميزان الذي يحدد حدود الصواب والخطأ. يقول عمر بن الخطاب: "العدل أساس المُلك". العدل لا يعني فقط تطبيق القوانين، بل هو قيمة داخلية تجعل الإنسان قادراً على تقييم الأمور بإنصاف، دون تحيّز أو ظلم.

 

الحرية تمنح الإنسان القدرة على اتخاذ قراراته بنفسه، لكنها في الوقت ذاته مسؤولية ثقيلة. يقول جبران خليل جبران: "الحرية هي الحياة". فمن دون الحرية، يصبح الإنسان مجرد تابع لغيره، غير قادر على اتخاذ قراراته الخاصة، لكن الحرية دون وعي قد تقود إلى الفوضى، ولهذا، يبقى التوازن بين الحرية والمسؤولية هو مفتاح السير في طريق الصواب.

 

في النهاية، رقصة الضوء والظل هي رقصة الحياة بكل تعقيداتها، فهي تتطلب منا أن نتعلم من أخطائنا، وأن نستفيد من تجاربنا، وأن نعتمد على مبادئنا وقيمنا، كما تتطلب منا أن نستخدم ذكاءنا وموهبتنا، وأن ننتبه إلى انفعالاتنا، وأن نفكر بشكل نقدي، فالحياة ليست مجرد سلسلة من الأحداث، بل هي رقصة معقدة بين الخطأ والصواب، وبين الضوء والظل.

 

الحياة ليست معادلة حسابية تُحل بخطوات ثابتة، ولا مساراً مستقيماً يُوصلنا إلى يقين مطلق، بل هي رقصة دائمة بين الضوء والظل، وبين الخطأ والصواب، وبين المعرفة التي تنير والعواطف التي تعتم، وبين العدل الذي يزن والحرية التي تطيح بالميزان أحياناً!، لا أحد يمسك بخيوطها كلها، ولا أحد يصل إلى مرحلة يرى فيها الصورة كاملة دون ضباب، فالبشر بطبيعتهم يتعلمون بالمحاولة، وبالنجاح حيناً، وبالسقوط حيناً آخر.

 

نحن نمضي في هذه الرقصة كلٌ بطريقته، نتعثر ثم نستعيد توازننا، ونعيد النظر في قراراتنا، ونتعلم أن كل خطوة خاطئة تحمل في طياتها درساً، وكل خطوة صائبة لم تكن لتوجد لولا أخطاء سبقتها، نبحث عن إيقاع يناسبنا، وعن توازن يجعل قراراتنا أكثر حكمة، وأخطاؤنا أقل كلفة، لكن الحقيقة التي لا مفر منها هي أن الخطأ ليس نقيض الصواب، بل هو جزء من الرحلة نحوه، كما أن الظل لا يُلغي الضوء، بل يحدد ملامحه.

 

ربما، عندما ننظر إلى الوراء، سنجد أن أكثر لحظاتنا ارتباكاً كانت الأكثر تعليماً، وأن كل تلك العثرات التي خشيناها لم تكن سوى خطوات غير متزنة في رقصة الحياة!، رقصة لا تنتهي، يتغير فيها الإيقاع، لكن جوهرها يبقى واحداً: البحث المستمر عن فهم أعمق، وعن قرارات أنضج، وعن خطوات أكثر اتزاناً في مسرح الزمن

 

فالحياة، في نهاية المطاف، ليست سوى رقصة بين الضوء والظل، حيث نتعلم أن النور لا يكتمل إلا بظله، وأن الرقص بينهما هو ما يصنع جوهر التجربة الإنسانية.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!

  الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!  في زوايا الروحِ حيثُ ينسابُ الضوءُ خافتًا، تُولدُ الصحوةُ، كأنّما كنتَ نائمًا في قفصِ ا...