خناجر في الظل: حينما تنقلب الثقة إلى غدر!
في ظلمة الليل، حيث تتلاشى الخطوط بين
الحقيقة والوهم، وبين الواقع والخيال، تتردد عبارة كصدى بعيد: "ليس كل من
سبق.. صدق!" وكأنها نداء خافت ينبعث من أروقة الذاكرة، يوقظ فينا مشاعر دفينة
كنا نظن أننا تجاوزناها!، هذه الكلمات ليست مجرد حروف متراصة، بل جرح مفتوح،
وشهادة على تجارب حفرت في أرواحنا أثراً لا يمحى، كم مرة اعتقدنا أن الحياة تسير
وفق وعودها، وأن الأيام ستنصفنا، فإذا بها تضعنا في ممرات متعرجة، حيث لا شيء
واضح، لا الخطوط مستقيمة، ولا النهايات مضمونة.
الحياة لا تمنحنا إجابات جاهزة، بل
تتركنا نبحث عنها وسط ظلام الحيرة!، إذ في بعض الأيام، نشعر وكأننا نسير تحت ضوء
القمر، حيث الطريق واضح والمستقبل يبدو واعداً، لكن في أيام أخرى، نتخبط وسط عتمة
لا نهائية، نمد أيدينا بحثاً عن طمأنينة، فلا نجد إلا الفراغ!، نقف عند مفترقات
الطرق، ونحاول أن نفهم: هل كانت تلك اللحظات الجميلة حقيقية، أم أننا كنا نعيش في
سراب صنعته ثقتنا العمياء؟ وهل كانت الخيبات حتمية، أم أننا نحن من أغلقنا أعيننا
عن إشارات التحذير المبكرة؟
في بداياتنا، نحن كالأطفال، لا نحمل
في قلوبنا سوى البياض، نرى العالم بعدسة نقية، ونمنح الثقة بسهولة، ونصدق الكلمات
دون أن نشكك في نواياها!، ونظن أن الوجوه التي تبتسم لنا تحمل الخير لنا، وأن
الأيدي التي تمتد نحونا لن تتركنا في منتصف الطريق، ثم نسير مطمئنين، كأننا نعيش
في عالم مثالي، حيث الصدق هو الأصل، والخداع مجرد استثناء عابر، لكن ما لا
يخبروننا به هو أن بعض الابتسامات لا تعني الفرح، وبعض الأيدي الممدودة تخفي خناجر
في الظل.
مع مرور الزمن، تتكشف أمامنا الوجوه
الحقيقية، تلك التي كانت تخفي وراءها نيات لم نكن نراها، فندرك أن بعض الكلمات
اللطيفة لم تكن سوى مصيدة، وأن بعض الوعود لم تكن إلا فقاعات هواء، وأن القلوب
التي ظنناها نقية! كانت تحمل في أعماقها سواداً لا يُرى إلا عندما تسقط الأقنعة!،
كم مرة نظرنا إلى شخص ما وظننا أننا نعرفه، فقط لنكتشف لاحقاً أنه كان غريباً عنا
طوال الوقت؟ وكم مرة خُدعنا ليس لأننا لم نكن نرى، بل لأننا أردنا أن نصدق، ولأننا
تمسكنا بالأمل في أن الخير أقوى من الزيف؟
ورغم ذلك، فإن هذه التجارب، مهما كانت
موجعة، لا تجعلنا أقل نقاءً، لكنها تعلمنا كيف نميز بين الأصيل والزائف، وبين
الحقيقة والوهم، وبين من يستحق أن نبقيه في حياتنا ومن يجب أن نتركه في الماضي!،
صحيح أن الحياة طريق متعرج، لكن كل منعطف فيها يحمل درساً، وكل ظلام يخفي بداخله
ضوءاً ينتظر من يكتشفه.
لكن رغم كل ذلك، لا ينبغي لهذه
التجارب أن تسجننا في دائرة الخوف، أو تجعلنا نشك في كل من حولنا، بل يجب أن
تمنحنا بصيرة أعمق لنرى الأمور كما هي، لا كما كنا نريدها أن تكون.
الخداع... الغش... كلاهما يتسلل إلينا
كظلٍ مراوغ، لا يظهر بوضوح لكنه دائم الحضور، فيرافقنا في منعطفات الحياة، ويختبئ
في تفاصيلها، ويتغلغل في اللحظات التي نكون فيها أكثر ثقة واطمئناناً، فنقع في
حبائل الأكاذيب، ليس لأننا سذّج، بل لأننا نمنح الثقة بصفاء، ونؤمن أن الصدق
متبادل، حتى نفاجأ بأن ما كان يبدو متيناً، لم يكن سوى سرابٍ هش.
نمنح الثقة، فتنكسر!، ونصدق الكلمات،
فنتعثر بها، ونرى في بعض الأشخاص مرسى، فإذا بهم عواصف تجرفنا نحو الألم، ثم نبحث
عن مخرج من متاهةٍ لم ندخلها بإرادتنا، متاهةٍ رسمها لنا من ظنناهم أقرباء الروح،
أولئك الذين منحناهم مساحات في قلوبنا، فإذا بهم يستغلونها لزرع الخيبة!، كم مرة
ظننا أننا في مأمن، ثم اكتشفنا أننا في قلب الخديعة؟ وكم مرة استندنا إلى كتفٍ
لنجد خلفه خنجراً مسموماً؟ وكم مرة سامحنا، فقط لنجد أنفسنا ضحايا مجدداً؟
أما النفاق، فهو الوجه الآخر للخداع،
لكنه أكثر إتقاناً، وأكثر دهاءً، وأكثر قدرة على إقناعنا بأنه الصدق بعينه!، هو
قناعٌ بارع يرتديه البعض، فيتحدثون بحب، ويغدقون علينا بالاهتمام، ويبتسمون في
وجوهنا، لكن قلوبهم تضمر نياتٍ لا نشعر بها إلا بعد أن ينهار كل شيء!، كم مرة
أدهشنا كيف يمكن لإنسان أن يحمل وجهين، أو أن يتحدث بلسانين، أو أن يعيش حياتين
متناقضتين وكأن ذلك أمرٌ عادي؟
النفاق كالسراب، يخدعك ببريقه، ويجعلك
تركض نحوه وأنت تظن أنك أخيراً وجدت الصفاء، لتكتشف في النهاية أنه مجرد فراغ، بل
وهم وسراب لا يروي عطشك، ولا يمنحك ما وعدك به!، والأسوأ من ذلك، أنه لا يكتفي
بالخداع، بل يجعلك تشك في كل من حولك، حتى في نفسك!، يجعلنا نتساءل: كيف نعرف
الصادق من المنافق؟ وكيف نفرق بين النية الحقيقية والمظهر الخادع؟
لكن رغم ذلك، ورغم الخيبات، لا يجب أن
نسمح للنفاق بأن يفسد أرواحنا، فقد يكون العالم مليئاً بالمزيفين، لكنه لا يخلو من
الصادقين، أولئك الذين لا يرتدون أقنعة، ولا يخفون وجوههم الحقيقية خلف ستار
المصالح، لكن إن كان النفاق يخدعنا ببريقه، فإن الخيانة أكثر قسوة، فهي لا تكتفي
بالخداع، بل تكسر فينا شيئاً عميقاً، شيئاً ظننا أنه محصّن ضد الانهيار.
وتلك الخيانة، أشبه بالسهم الذي لا
يخطئ هدفه، لا يمر مرور الكرام، بل يستقر عميقاً في الروح، حيث لا دواء يزيل أثرها
بسهولة!، وهي ليست مجرد خيبة، بل زلزال يهدم بناء الثقة الذي شيدناه بصدقٍ وسذاجة،
حجراً فوق حجر، حتى اعتقدنا أنه حصن لا يُخترق، لكنها تأتي فجأة، بلا مقدمات، من
يدٍ كنا نعتقد أنها ستمتد لتنتشلنا، فإذا بها تدفعنا نحو الهاوية.
كم هو قاسٍ أن تأتي الطعنة من حيث لا
نتوقع، أو أن نجد الغدر حيث ظننا الأمان، أو أن نرى في العيون التي كانت تضيء لنا
درب الطمأنينة، بريق الخداع الذي لم نلاحظه من قبل!، فنعيد التفكير في كل شيء،
ونبحث في التفاصيل المنسية، ونحاول أن نفهم متى بدأ هذا الشرخ، ومتى تحولت المحبة
إلى خنجر، والصداقة إلى فخ، لكنها، مهما كانت موجعة، تعلّمنا أن الثقة ليست هدية
تُمنح لكل عابر، بل كنزٌ لا يُودَع إلا لدى من يستحقه، أو لدى من يثبت، بالمواقف
لا بالكلمات، أنه جدير بها.
وفي مواجهة كل ذلك، نلجأ إلى النسيان،
أو هكذا نحاول... فنقنع أنفسنا أن بعض الأمور يجب أن تُمحى، وأن بعض الأشخاص يجب
أن يُتركوا في الماضي، كصفحة نطويها ولا نعود إليها، ثم نحاول أن نجعل الزمن
ممحاة، وأن نغلق أبواب الذاكرة بإحكام، وأن ندفن ما يؤلمنا تحت ركام الأيام، لكن
الحقيقة أكثر تعقيداً، إذ الذكريات لا تموت، بل تتوارى، وتختبئ في زوايا عقولنا،
لا تُحدث ضجيجاً لكنها تبقى هناك، تراقب بصمت، وتنتظر لحظة ضعفٍ لتطفو من جديد.
لحظة صدق مع النفس، ونظرة إلى شيء
مألوف، وكلمة عابرة، كلها كفيلة بإحياء ما حسبناه قد اندثر، كأن الماضي لا يفقد
سلطته علينا أبداً، بل يظل جزءاً منا، نحمله معنا أينما ذهبنا، ومع ذلك، لا بأس،
فهذه الذكريات، مهما كانت مؤلمة، هي ما تصنعنا، وهي ما يعلّمنا كيف نمضي أقوى،
وكيف نصنع لأنفسنا حصانة لا تعني القسوة، بل تعني الحكمة في منح الثقة، والتريث
قبل أن نفتح الأبواب لمن قد يحمل في يده المفتاح.. وفي الأخرى السكين.
وهكذا، بين الذكريات التي لا تموت
والدروس التي تتركها فينا، ندرك أن النضج لا يعني نسيان الألم، بل فهمه واستيعابه،
حتى نصل إلى الحقيقة التي تختصرها تلك العبارة العميقة: "ليس كل من سبق..
صدق!" عبارةٌ تختصر قسوة التجربة وعمق الإدراك، وتذكرنا بأن الحياة ليست
ساذجة كما كنا نظن، وأن الثقة ليست باباً يُفتح لكل طارق!، وتعلمنا أن نكون أكثر
وعياً، ألا ننخدع بالبريق، وألا نمنح أرواحنا لمن لم يثبت استحقاقه، لكنها لا
تدعونا إلى الارتياب المطلق، ولا إلى
أن نبني جدراناً تعزلنا عن العالم، بل تدعونا إلى التمييز، وإلى النظر بعينٍ أكثر
بصيرة، وإلى أن نتعلم كيف نزن القلوب لا بالكلمات، بل بالأفعال.
ورغم كل ما مررنا به، ورغم الخيبات
والجروح، يبقى هناك أمل، ويبقى ذلك الخيط الرفيع الذي يجعلنا نؤمن أن الصدق حي وإن
قلّ، وأن النقاء لم يصبح أسطورة!، ربما، في زاوية ما من هذا العالم، أو في لقاء
غير متوقع، سنجد ذلك الشخص الصادق، النادر، الذي يثبت لنا أن الحقيقة لا تُهزم
دائماً، وأن النقاء يمكن أن يظل متوهجاً وسط العتمة.
علينا أن نحمل ذكرياتنا لا كأثقالٍ
تكبلنا، بل كعلامات ترشدنا، وأن نأخذ من الماضي دروسه دون أن نسمح له بأن يسرق منا
المستقبل!، فالحياة ليست مجرد ساحة للحذر، بل هي أيضاً مساحة للفرص، وللنمو،
وللتجدد، وأن نتعلم كيف نمضي دون أن نخشى كل خطوة، وكيف نحافظ على براءتنا دون أن
نكون عُرضة للخداع، وكيف نكون أقوياء دون أن نصبح قساة.
وربما، في لحظة من لحظات النضج
والصفاء، سنجد أنفسنا نبتسم لا لأن الجراح اندملت تماماً، بل لأننا تعلمنا كيف
نتعايش معها دون أن تثقل أرواحنا!، سنكتشف أن الخيبات لم تكن سوى محطات على
الطريق، لا نهاية الرحلة، وسنفهم أن الغدر لم يكن عيباً فينا، بل اختباراً لقدرتنا
على النهوض بعد كل سقوط، وسندرك أن الصدق لم ينقرض، بل أصبح نادراً، ومن النُدرة
يولد الثمن، فكلما قلّ الشيء زادت قيمته، وكلما اختفى الصادقون في الزحام، زاد
بريقهم حين يظهرون.
"ليس كل من سبق.. صدق!"، هذا صحيح،
لكن هذا لا يعني أن الشك يجب أن يغدو رفيقنا الدائم، أو أن ننظر إلى كل يد تمتد
نحونا بريبة، فهناك قلوب نقية وسط الزحام، وأرواح تضيء رغم العتمة، وأشخاص لم
تغيرهم التجارب، بل زادتهم صدقاً وصفاءً، وربما في يومٍ ما، بعد أن تهدأ العاصفة
في داخلنا، سنلتقي بذلك الشخص الذي يعيد إلينا الإيمان بأن الخير ما زال موجوداً،
وأن الصدق ليس حكاية قديمة، بل حقيقة تتجسد في أفعال من اختاروا ألا يكونوا جزءاً
من زيف هذا العالم.
عندها، لن نقول فقط: "ليس كل من
سبق.. صدق!"، بل سنضيف بثقة وامتنان: "لكن البعض فعل... وما زال يفعل".
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق