الاثنين، 24 مارس 2025

 

وجه السلبية: بين الظل والضوء!

 

لطالما أثارني ذلك السؤال المتكرر: كيف يعيش الشخص السلبي؟ كيف يمضي يومه بين ظلال الامتعاض ووهج التذمر؟ كيف يرى الحياة من منظوره المعتم، دون أن يطرف له جفن أو يهتز له وجدان؟ ليس السؤال انتقاداً ولا استنكاراً، بل محاولة لفهم ظاهرة تبدو وكأنها خيط ممتد في نسيج العلاقات البشرية، خيط يتغلغل ببطء، لكنه لا يمر دون أن يترك أثره!، وقد كان لي مع هذه الظاهرة قصة، أو لنقل تجربة، لم تخبرني فقط عن شخص بعينه، بل عن كيف يمكن للسلبية أن تكون سجناً لا يرى صاحبه جدرانه.

 

حدث ذات يوم أن توسطت لأحد المعارف في عمل، ظننت حينها أنني أفتح له باباً نحو الاستقرار، وأنني أؤدي واجباً في مد يد العون، فلم أسأل كثيراً عن مهاراته، وعن مدى استعداده، وعن قناعاته العميقة تجاه العمل والتعاملات المهنية، كان يكفيني أنه شخص قريب، وأنني قدمت له معروفاً، مرت الأيام، ثم انقضت السنوات، ولم أعد أتابع أخباره هناك، حتى وصلني خبر إنهاء خدماته!، فتساءلت، كما قد يتساءل أي شخص في مكاني، ماذا حدث؟ هل هناك خطب ما؟

 

حين سألت أحد المشرفين في ذلك المكان، لم يكن جوابه غامضاً ولا متردداً، بل مباشراً تماماً: "إنه كثير الشكوى، وكثير اللوم، ينثر التذمر حيثما حلّ، حتى بات جزءاً من المناخ العام، وصار الموظفون يلتقطون منه عدوى السلبية"!، صدمتني هذه العبارة الأخيرة: "عدوى السلبية"، أيمكن للسلبية أن تكون بالفعل عدوى؟ أيمكن لمزاج شخص واحد أن ينعكس على محيط كامل؟ تأملت الأمر ملياً، ووجدت أن الجواب لم يكن صعباً: نعم، الشخص السلبي لا يعيش في معزل، إنه يصنع حوله دائرة مغلقة من التذمر، دائرة لا يدخلها الضوء.

 

لكن السؤال الأعمق الذي ظل يطرق ذهني هو: لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ هل هم مدركون لما يفعلونه؟ هل يختارون عمداً أن يكونوا كذلك؟ أم أن الأمر أكبر من مجرد قرار عابر؟

 

حين تعمقت في التفكير، وجدت أن الشخص السلبي قد لا يرى نفسه سلبياً، بل يعتبر نفسه واقعياً، صادقاً في وصف ما يحدث، وأن المشكلة ليست فيه بل في العالم، إنه لا يرى السواد سواداً، بل يراه كشفاً للحقيقة، ولا يرى التذمر مرضاً، بل يراه حقاً طبيعياً!، قد تكون هناك أسباب دفينة، أو جراح قديمة، أو خيبات متكررة صنعت منه هذا الكائن المتوجس، الذي يتوقع الأسوأ قبل أن يأتي، ويشعر أن كل جميل لا بد أن يخبئ خلفه خيبة أخرى.

 

ومع ذلك، لم أفهم كيف يهنأ هؤلاء؟ كيف يرتاحون؟ كيف ينامون؟ إن كنت تمضي يومك كله في تضخيم المشكلات، وفي الإحساس بالغبن، وفي رؤية العيوب قبل المحاسن، كيف لا ينهكك ذلك؟ كيف لا يثقل روحك؟ أم أن السلبية نفسها تصبح نوعاً من العادة، وتتغلغل في الفكر حتى يصبح التخلص منها أصعب من التعايش معها؟

 

الأسئلة استمرت، ولم أجد لها أجوبة جاهزة، لكنني فكرت: هل يمكن لشخص كهذا أن يتغير؟ هل يمكن أن يرى الحياة بطريقة أخرى؟ أم أن الأمر أشبه بحديد يصدأ حتى يتآكل، فلا يبقى منه إلا أجزاء متناثرة؟

 

ربما لا يحتاج الأمر إلى مواجهة مباشرة، فالنصح المباشر قد يبدو بالنسبة له نوعاً من الانتقاد، وربما الحل في وضعه وسط بيئة إيجابية، وفي أن يرى نموذجاً آخر يتعامل مع الحياة بطريقة مختلفة، وفي أن يتعلم كيف يبحث عن نقطة الضوء، ولو كانت صغيرة، ليتعلق بها، لكن الأهم، هل يريد هو ذلك؟ أم أنه يجد في السلبية راحته الخاصة، وإن كانت راحة مأزومة؟

 

إن الإنسان مسؤول عن ذاته، وعن رؤيته للعالم، وعن الطريقة التي يختار بها أن يعيش أيامه، ربما لا يمكننا إجبار أحد على رؤية النور، لكن يمكننا أن نكون ذلك الضوء البعيد، الذي قد يلتفت إليه يوماً، حين يقرر أن ينظر خارج دائرته المظلمة.

 

في النهاية، السلبية ليست مجرد حالة مزاجية، بل اختيار، وإن بدا في بعض الأحيان غير مقصود!، ربما لا يدرك الشخص السلبي أنه يحفر في ذاته بئراً بلا قاع، وأنه يعزل نفسه عن الحياة شيئاً فشيئاً، وربما لم يجد يوماً من يخبره أن الحياة، رغم كل شيء، تظل تحمل في طياتها مساحة للفرح، وأن بين الضغوط والأعباء هناك دائماً لحظات صغيرة تستحق الامتنان.

 

يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن للسلبية أن تذوب؟ أم أنها تظل كالجدار الذي يعلو ببطء حتى يحجب صاحبه عن كل شيء؟ وحده الشخص المعني يملك الجواب.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عاشق في محراب الوحدة!

  عاشق في محراب الوحدة! أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا... ها هي ذاكرتي تُطوِي نفسها كملحمةٍ مهجورة، تتنفَّس بين سطورها لوعةٌ لا تموت. ظلٌّ طويلٌ...