بين
الوعي والإدراك: حين ترى العين ولا تبصر الروح!
هل فكرت يوماً كيف تنظر العيون ذاتها
إلى المشهد ذاته، لكن إحداها ترى أكثر مما تراه الأخرى؟ كيف يستمع اثنان إلى ذات
الكلمات، فيدرك أحدهما ما يتجاوزها، بينما يعبرها الآخر كصدى بلا عمق؟ إنه الوعي
والإدراك، تلك الثنائيات التي تشبه موج البحر وساحله، يلتقيان لكن لا يندمجان، ويتعاقبان
لكن لا يتشابهان.
الوعي هو أن تستيقظ على العالم، وأن
تشعر بحضوره، وأن تدرك أنك داخل نهر الزمن المتدفق، لكنه قد يكون أشبه برؤية
الأشياء من نافذة زجاجية، ترى دون أن تلمس، وتفهم دون أن تغوص، إنه أشبه بمن ينظر
إلى البحر من الشاطئ، ويراقب حركة الموج، ويدرك المد والجزر، لكنه لا يختبر ملوحة
الماء على جلده، ولا يعرف برودة الأعماق، أو سكونها المخيف.
أما الإدراك، فهو المشي في الحقل، أن
تترك أقدامك تغوص في الطين، أن تلتقط المعاني لا أن تراها فقط. الإدراك هو
التجربة، هو الخطوة التي تأخذك من النظر إلى التفاعل، ومن الفهم النظري إلى
التعايش الحقيقي. أن تدرك شيئاً يعني أن تمسه بيديك، أن تشعر بخشونته أو نعومته،
أن تعرفه ليس فقط بعينيك، بل بكل حواسك، وبروحك أيضاً.
كم من أشياء وعيناها دون أن ندركها؟
كم من حقائق مررنا بها كما يمر العابرون أمام اللوحات في المتاحف، نقرأ العناوين
دون أن نغوص في التفاصيل؟ كثيرون يملكون وعياً بالمشاعر، لكن قلة من يدركونها، ويعيشونها
بعمق، ويتذوقون حلاوتها ومرارتها!، نحن نعي أن الحزن مؤلم، لكننا لا ندرك معناه
الحقيقي حتى نختبر فقداً لا يُعوَّض، ونعي أن الفرح جميل، لكننا لا ندرك قيمته حتى
نعيشه ونشعر بخفته في قلوبنا.
الإدراك هو الخطوة الفاصلة بين
المعرفة والتجربة، وبين أن تقرأ عن النار، وأن تحترق بها، وبين أن تدرس الحب، وأن
تقع فيه، وبين أن تفهم الحياة، وأن تحياها حقاً!، قد يملك البعض وعياً واسعاً،
لكنهم يظلون خارج المشهد، يراقبون دون أن يشاركوا، ويخشون أن يخوضوا التجربة،
فيبقون كمن يرى العالم من خلف الزجاج، دون أن يجرؤ على كسره.
لكن الإدراك وحده أيضاً لا يكفي، فهو
لحظة التماس، ولحظة العيش، لكنه قد يكون بلا أفق إذا لم تتبعه البصيرة، فالإدراك
قد يكون مؤلماً، لكنه لا يحمي صاحبه دائماً من التكرار، أما البصيرة فهي ذلك الفهم
العميق الذي يجعل التجربة درساً، والذي يحوّل الألم إلى حكمة، والذي يجعلنا لا
نكرر الأخطاء ذاتها مراراً، فالبصيرة هي ما تجعلنا نعرف أي الحقول تستحق أن نمشي
فيها، وأي الطرق ستقودنا إلى حيث يجب أن نكون.
قد يحمل الإنسان وعياً ثقافياً واسعاً،
يقرأ، ويسافر، ويناقش، ويملأ عقله بالمعلومات ويثري معارفه، لكنه يظل بعيداً عن
الإدراك العميق لماهية الحياة، فهو يشبه من يحفظ خريطة مدينة، ويعرف شوارعها
وأسماء أحيائها، لكنه لم يسلك طرقها فعلياً، ولم يضيع في أزقتها، ولم يشعر بحرارة
أرصفتها تحت قدميه، هذا الفارق الجوهري بين أن تمتلك وعياً نظرياً بالأشياء، وأن
تختبرها إدراكاً وتجربة.
كم من أشخاص يملكون وعياً واسعاً
بالحب، ويقرؤون عنه في الروايات، ويناقشونه في الحوارات الفلسفية، ويحللون
مفاهيمه، لكنهم عندما يعيشونه فعلياً، يدركون أنه شيء آخر تماماً، وأنه لا يخضع
للمنطق الذي درسوه، وأنه يأتي بحالاته الخاصة التي لا تُفسَّر نظرياً. كم من شخص
لديه وعي بمخاطر الفشل، لكنه لا يدرك حقيقته إلا حين يخسر حلماً عمل عليه لسنوات؟
وكم من شخص يعي أهمية الوقت، لكنه لا يدرك قيمته إلا حين يواجه لحظة النهاية؟
إنه تماماً كطالب يعلم أن التعليم
بوابة المستقبل، يسمع هذه العبارة مراراً، ويرددها دون أن يشعر بوقعها الحقيقي،
لكنه لا يدرك معناها العميق إلا حين يواجه صعوبة الطريق، وحين يرى زملاءه يتقدمون
بينما هو ما زال متعثراً، وحين يختبر قسوة الفرص الضائعة، أو حين يجد نفسه أمام
لحظة الحقيقة التي تجعله يتمنى لو أنه فهم ذلك منذ البداية.
الوعي، إذن، هو المقدمة، وهو الضوء
الأول الذي يلمع في الذهن، لكنه قد يكون مجرد معرفة سطحية لا تمتد إلى الأعماق،
أما الإدراك، فهو أن تتسع تلك المعرفة، وأن تتحول إلى إحساس حقيقي، وإلى تجربة
متكاملة تُغيّر نظرتك إلى الأمور، وهناك كثيرون يملكون وعياً، لكنهم يفتقدون
الإدراك، تماماً كمن يقرأ عن العواصف، لكنه لم يشعر ببرودة الريح على جلده، أو كمن
يدرس قوانين الفيزياء، لكنه لم يسقط يوماً من مكان مرتفع، ليختبر تسارع الجاذبية
في قلبه قبل جسده.
وهنا، تأتي البصيرة، ذلك الفهم العميق
الذي يجمع بين الوعي والإدراك، الذي يجعلنا لا نحتاج دائماً إلى المرور بتجربة
مؤلمة لندرك الحقيقة، بل نصل إليها بحس داخلي، وباستنتاج مستخلص من حياة الآخرين،
وبحكمة تجعلنا نرى الطريق حتى لو لم نمشِ فيه بعد!، فهل كان الطالب واعياً لكنه
غير مدرك؟ أم أن الإدراك، في جوهره، لا يأتي إلا حين تصبح المعرفة تجربة، والتجربة
درساً، والدرس وعياً جديداً يولد من رحم اللحظة؟
يقول الشاعر المتنبي: "ذو
العَقلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بعقلِهِ ** وأخو الجَهالَةِ في الشقاوَةِ
يَنعَمُ". ليس كل من وعى فهم، وليس كل من أدرك استوعب، فهناك خيط رفيع بين أن
ترى الطريق وبين أن تدرك كيف تسير فيه، وبين أن تمشي فيه وبين أن تفهم أين يقودك،
لهذا نقول: "أدرك الموقف"، لا نقول: "وعى الموقف"، لأن
الإدراك اقتران باللحظة، بينما الوعي قد يكون محض معرفة جامدة لم تمتزج بعد
بالتجربة.
لكن ماذا عن البصيرة؟ تلك التي تشبه
حكمة الزمن المختزنة في الأرواح، حين تنقشع الغشاوة وتتجلى الحقيقة كما هي. قال
الله تعالى: "فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"، أي أنك اليوم نافذ البصر،
عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة، كما يقال: "فلان بصير بهذا الأمر"
إذا كان ذا علمٍ ودراية به. ليست البصيرة مجرد نظر، بل هي إدراك متأخر، ولحظة
انكشاف تضع الإنسان أمام الحقيقة المجردة، حيث يصبح الفهم حاداً كحد السيف، لكنه
يأتي بعد فوات الأوان، إنها الامتداد العميق للرؤية، والفهم الذي يسبق الحدث أحياناً،
ويتجاوزه أحياناً أخرى، لكنها، على خلاف الإدراك اللحظي، تظل مرهونة بالزمن
والتجربة.
ربما لهذا نفرّق بين "إدراك
الموت" و"استيعاب الدرس"!، الأول لحظة فاصلة، والثاني نتيجة تنضج
مع الزمن، فالإدراك قد يكون مفاجئاً كوميض البرق، أما الاستيعاب فيتطلب مهلة كضوء
الشمس البطيء الذي يملأ الأفق تدريجياً.
وهنا المفارقة العجيبة، كيف تكون
"كثير الوعي، قليل الإدراك" عبارة صحيحة؟ لأن الوعي قد يملأ العقل، لكنه
لا يغير القلب، ولا يصنع ذلك التحول الداخلي الذي يجعل الإنسان يرى الحياة بوضوح
مختلف، ولهذا قد نسمع عن شخص "كان يدرك أنه سيكون شيئاً عظيماً"، لكننا
لا نقول "كان لديه وعي كافٍ أنه سيصبح شيئاً كبيراً"، لأن الإدراك في
هذا السياق هو ذلك الشعور الحتمي الذي يتجاوز مجرد المعرفة، وهو يقينٌ داخليٌّ كمن
رأى مستقبله كحقيقة لا تقبل الشك.
أما المخلوقات الأخرى كالحيوانات التي
"تدرك" الخوف بفطرتها، فهي ليست بحاجة إلى وعي، لأنها محكومة بغريزة
تحفظ بقاءها دون الحاجة إلى تفكير أو تحليل، فالطائر يفر عند أدنى حركة مريبة،
والغزال يدرك الخطر قبل أن يراه، والأسماك تستشعر اهتزازات الماء قبل أن تلمح
المفترس!، إنه إدراك مغروس في نسيجها الفطري، لا يحتاج إلى وعي تحليلي أو تراكم
معرفي، بل ينبثق كاستجابة فورية، وكضوء خاطف يشعل الحواس دون أن يمر عبر متاهات
العقل.
وهنا يكمن جوهر الفارق: الإدراك قد
يكون لحظياً، وغريزياً، غير قابل للتأجيل أو التردد، بينما الوعي يتطلب التراكم، والتأمل،
والتفاعل مع المعرفة بمرور الزمن، فالإنسان قد يدرك الخطر لكنه يتردد، يوازن بين
الاحتمالات، يستحضر تجاربه السابقة، وربما يسأل نفسه: "هل ما أشعر به حقيقة،
أم مجرد وهم؟" بينما الحيوان لا يملك رفاهية السؤال، لأنه مسيّر باستجابة
حتمية لا تحتمل الشك.
ولكن ماذا لو كان للإنسان إدراك فطري
يشبه إدراك الحيوانات، لكنه يُطمس أحياناً تحت وطأة العقل وتحليلاته المعقدة؟ كم
من مرة شعرنا بانقباض غامض تجاه موقف ما، أو ارتبكت حواسنا دون سبب واضح، ثم
اكتشفنا لاحقاً أن الحدس كان صادقاً؟ إنها لحظات نقترب فيها من الإدراك الخام، ذلك
الإدراك الذي لم تلوثه الأفكار بعد، وكأن في داخلنا حيواناً صغيراً يستشعر الخطر
قبل أن يراه المنطق.
أما البصيرة، فهي ليست إدراكاً غريزياً
ولا وعياً مكتسباً، بل تماهٍ بين الاثنين، واختزال للتجربة في حكمة خالصة، إنها
الرؤية المتجاوزة للحواس، والفهم الذي لا يحتاج إلى دليل ملموس، بل ينبع من معرفة
عميقة تتجاوز اللحظة الحاضرة. الحيوان يدرك الغابة من خلال حواسه، أما صاحب
البصيرة فيدرك الحياة بأكملها من خلال روحه، ولهذا، البصيرة ليست مجرد معرفة، بل
حالة من الصفاء الذهني، حيث تتلاقى التجربة مع الفهم، ويتحول الوعي إلى يقين.
كيف نصوغ علاقتنا بهذه المفاهيم؟ وكيف
نوازن بين الإدراك اللحظي، والوعي التراكمي، والبصيرة العميقة؟ ربما يكمن الحل في
أن نحيا بأعين مفتوحة ترى التفاصيل، لكن بأرواح تملك بصيرة تدرك الجوهر، وألا
ننشغل فقط بما يظهر على السطح، بل بما يكمن خلفه، بين طيات اللحظات العابرة التي
كثيراً ما تخبئ معانيها حتى يفوت الأوان.
الوعي وحده لا يكفي، فقد نعي شيئاً
دون أن ندرك أثره الحقيقي، وقد ندرك خطورة قرار، لكننا نعجز عن استيعاب تبعاته حتى
نجد أنفسنا أمام حقيقة لا رجعة فيها. كم من مرة وعينا أهمية الوقت، لكننا لم ندرك
قيمته إلا بعد أن سرق منا أحلاماً لم نحققها؟ وكم من مرة وعينا الحب، لكننا لم
ندرك فقدانه إلا حين أصبح ذكرى؟ الفرق بين من يعيش اللحظة بوعي، ومن يعيشها
بإدراك، ومن يراها ببصيرة، هو الفرق بين من يعرف الطريق، ومن يسير فيه، ومن يرى
نهايته قبل أن يصل.
ربما الحل أن نمارس حياتنا كما لو كنا
نكتب كتاباً، ننتبه لكل تفصيلة، ونقرأ ما بين السطور، ونربط الحاضر بالماضي،
ونتخيل المستقبل قبل أن يصبح واقعاً!، وأن نتوقف عن الركض دون تأمل، وعن الانشغال
باللحظة دون فهم أعمق لما تحمله من إشارات!، وأن نصغي لحدسنا كما نصغي لعقولنا،
لأن بعض الحقائق لا تُقال، بل تُحس، وبعض الأخطاء لا تُصلح، بل يجب تفاديها قبل
حدوثها.
لذلك، علينا أن نعي، وندرك، ونستوعب…
حتى لا نقف في اللحظة الأخيرة قائلين: "ليتنا كنا ندرك قبل فوات
الأوان".
في النهاية، لا شيء يعادل وضوح الرؤية
حين تحتاجها، وحين يكون الإدراك في موعده تماماً، كضوء ينكشف في اللحظة التي تقف
فيها على مفترق طرق، فتدرك أي مسار ستسلك دون تردد!، ولا شيء أقسى من الإدراك
المتأخر، حين يصبح الفهم عبئاً ثقيلاً لا منفعة منه، وحين ترى الصورة كاملة، ولكن
بعد أن غادر الجميع المسرح، وبعد أن أغلق الزمن أبوابه ولم يعد هناك وقت لتغيير أي
شيء.
أن تعرف لا يكفي، فالمعرفة وحدها قد
تكون مجرد حشد من المعلومات المتراكمة، مخزنة في العقل دون أن تجد طريقها إلى
الفعل!، وأن تفهم لا يكفي، فالفهم قد يمنحك تفسيراً للأحداث، لكنه لا يغير مجراها
إذا لم يرافقه وعي حقيقي يدفعك إلى اتخاذ القرار الصحيح في وقته!، وأن ترى لا
يكفي، فالعين قد تخدعك، وقد ترى، لكنها لا تدرك، تماماً كما يرى الإنسان الغروب كل
يوم، لكنه لا يستوعب جماله إلا حين يدرك أنه قد لا يشهده مجدداً.
المهم هو متى وأين وكيف تدرك،
فالإدراك في وقته يشبه يداً تُمسك بك قبل أن تسقط، وكلمة تُقال قبل أن يتلاشى
الأمل، وخطوة تُتخذ قبل أن يغلق القدر بابه، أما الإدراك المتأخر، فهو أشبه بمفتاح
يعثر عليه المرء بعد أن ضاع كل شيء، كأن تكتشف الطريق الصحيح بعدما قطعت مسافات
طويلة في الاتجاه الخاطئ.
وفي عالم يعج بالمعلومات، حيث الجميع
يقرأ، ويبحث، ويتحدث، ويناقش، قليلون هم الذين يبصرون حقاً، والذين يصلون إلى جوهر
الأشياء، بدل أن يظلوا عالقين في سطحها، والذين لا يكتفون بجمع الحقائق بل
يحوّلونها إلى بصيرة، وإلى وعي يُترجم إلى فعل، وإلى إدراك يأتي في لحظته، لا بعد
فوات الأوان.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق