همس الذكريات...
ذاكرة لا تنام!
همس
الذكريات، تلك اللمسة الخفيفة التي تمرّ على الروح كما تمرّ الريح على صفحة ماء
راكد، تحدث تموجاً داخلياً لا يُرى، لكنه يُشعر!، كائنٌ خفيّ، لا يُرى ولا يُمسك،
لكنّه يحيا في ثنايا الذاكرة، يتنفس داخل الإنسان كما لو كان جزءاً من تكوينه،
يُهمس حين يريد، ويصرخ حين يشاء. هل هو مخلوقٌ خالدٌ لا يفنى؟ أم مجرّد وهمٍ نخلقه
عندما تشتدّ بنا الوحدة، وعندما يطرق الحاضر أبوابنا بيدٍ قاسية، فنستدعي الماضي
ليكون أكثر رفقاً بنا؟
لكن،
ماذا لو لم يكن الماضي أكثر رفقاً؟ ماذا لو كان همس الذكريات ليس لمسة حانية، بل
ظلّاً ثقيلاً يطاردنا أينما ذهبنا؟ هناك ذكرياتٌ تتقمص دور العزاء، تربّت على
أكتافنا كصديق قديم يهمس: "لقد كنت هنا، لقد عشت هذا من قبل"، لكنها في
أحيانٍ أخرى تُشبه طيفاً عالقاً بين الأزمنة، لا يكفّ عن استدعائنا نحو ما لا يمكن
إعادته. كيف يمكن لشيء أن يكون مريحاً ومؤلماً في آنٍ واحد؟ وكيف تتسلل إلينا
الذكريات، دون أن نستأذنها، كأنها تمتلك حق العودة في أي وقت، كأنها كائنٌ حيٌّ
يرفض أن يُنسى؟
ربما
نحن لا نعيش ذكرياتنا، بل هي التي تعيشنا!، تتغلغل في نظراتنا، في نبرات أصواتنا،
في تلك اللحظات التي نحدّق فيها في الفراغ فنرى صوراً غير مرئية، وأشخاصاً غادروا
لكنهم لم يرحلوا حقاً. هناك ذكريات تأتي كنسمةٍ، تهدهد القلب بلطف، وأخرى تهبُّ
كعاصفةٍ تُبعثر كل استقرارٍ نظن أننا حققناه. وإن كان الحاضر هو ما نعيشه، فلماذا
يبدو أحياناً أنه مجرد صدى لما عشناه سابقاً؟ هل نحن نحيا في الزمن، أم أن الزمن
يحيا فينا؟
الغريب
أن همس الذكريات لا يخضع لقوانين المنطق، ولا يتبع تسلسلاً زمنياً!، فقد تأتي ذكرى
من الطفولة، تتسلل بين ثنايا يوم مزدحم بالحاضر، كأن الماضي لا يعترف بأنه قد مضى،
لكنها لا تأتي دائماً بوضوح، بل تظهر في ومضات، في تفاصيل صغيرة تكاد تكون غير
مرئية!، هنالك دائماً ذلك الشعور المبهم الذي يرافق لحظات التذكر، ذلك الإحساس بأن
الزمن يُعيد تشكيل نفسه، وأننا لسنا فقط نتذكر، بل نعيش من جديد، وربما لهذا
السبب، عندما تهمس الذكريات، نصغي لها بكل حواسنا، وننغمس في تفاصيلها كما لو أننا
نريد أن نلتقط منها ما لم ندركه سابقاً، كأننا نحاول قراءة ماضينا بعيون جديدة، أو
ربما، بقلوب لم تعد تخشى الحقيقة.
الأغرب
من ذلك أن الذكريات لا تأتي دائماً كما كانت، بل تتغير كما لو أن الزمن يعيد
كتابتها!، قد تحمل لنا دفئاً لم نشعر به حين عشناها، أو قسوةً لم ننتبه لها في
حينها، في لحظةٍ واحدة، قد نعيد تأويل موقفٍ قديم، فنراه من زاوية لم ننتبه لها،
وندرك أننا لم نكن نفهمه كما ينبغي!، كأن الذكريات ليست مجرد صورٍ محفوظة، بل
كائنات تنمو معنا، تتبدل ملامحها كما تتبدل نظرتنا للحياة.
وربما
لهذا السبب، لا يمكننا الهروب منها حقاً، حتى لو أغلقنا الأبواب، ستجد الذكريات
شقوقاً تتسلل منها، ستحضر على هيئة حلمٍ مبهم، أو إحساسٍ غامض، أو حتى لحظة صمتٍ
يخيّل إلينا فيها أننا نسمع صوتاً من الماضي، وحينها، لا يكون السؤال كيف نُبعد
الذكريات، بل كيف نتعايش معها دون أن نضيع في متاهتها.
أحياناً
يكفي عطرٌ معين، أو لحنٌ عابر، أو حتى نظرةٌ خاطفة إلى نافذةٍ مفتوحة، ليعود كل
شيء فجأة. لماذا يملك الماضي هذه القدرة الخارقة على اختراق الزمن، والتجسد أمامنا
دون استئذان؟ هل لأنه ببساطة لم يرحل أبداً، بل اكتفى بالتواري خلف ستائر الوعي،
متحيناً لحظة الظهور؟
لعل
الذكريات تشبه أحلاماً لم تغادرنا، بقيت فينا كقصائد غير مكتملة، كلوحاتٍ رسمها
الزمن لكنه لم يوقعها بعد، وربما نحن، حين نستعيدها، لا نبحث عنها لذاتها، بل نبحث
عن أنفسنا التي كنّاها ذات يوم!، وفي كل مرة يهمس فيها الماضي، لا يخبرنا فقط عمّا
كان، بل يذكّرنا بمن كنّا، وبما لم نعده، وبما قد نكونه يوماً!، لكن، ما يثير
الدهشة حقاً، ليس فقط حضور الذكريات، بل طريقتها في العودة إلينا، فهي لا تطرق
الأبواب برفق دائماً، ولا تأتي وفق طلبنا أو حاجتنا، بل تظهر كما تشاء، بأساليب لا
يمكن التنبؤ بها.
عجيبٌ
هذا الأمر؛ كيف لشيء أن يكون همساً وصراخاً في آنٍ واحد؟ أحياناً، يمرّ كشعاع ضوء
خافت في زوايا الذاكرة، بالكاد يُشعر به، لكنّه يترك أثره عميقاً، كما لو أنه نقش
على جدار الروح!، وأحياناً يأتي عاصفاً، يدفعنا إلى إعادة إحياء مشاهد قديمة بكل
تفاصيلها، كأنّ الزمن لم يتحرّك، وكأنّ الأشخاص لم يتغيروا، وكأنّ الأماكن لم
تهترئ تحت وطأة السنوات. يُقال إن الذكريات تسكننا أكثر مما نسكنها، وإنها تتغذّى
علينا كما نتغذّى عليها، وإنها، مهما خفَت صوتها، لا تموت أبداً، بل تبقى هناك، في
الخلفية، تترقّب لحظة ضعف، أو لحظة صفاء، لتعود مجدداً.
ولكن،
هل نحن من نستدعي الذكريات، أم أنها هي التي تختار وقت ظهورها؟ قد نعتقد أننا
نسيطر عليها، أننا نملك مفاتيح الماضي ونقرر متى نفتحه، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً!،
الذكريات أشبه بماء راكد ظاهرياً، يخفي تحته تيارات خفية، تنشط في أكثر الأوقات
غير المتوقعة!، قد نظن أننا تجاوزنا أمراً ما، حتى يفاجئنا مشهدٌ عابر، أو صوتٌ
مألوف، أو حتى ظلٌّ يشبه ملامح شخصٍ في الذاكرة، فنجد أنفسنا محاصرين بما حسبناه
قد غاب. هل نحن نمتحن الحياة من خلال الذكريات؟ هل الماضي هو ما يمنح الحاضر
معناه، أم أنّ الحاضر لا يتجاوز كونه مجرد صدى بعيد لما عشناه سابقاً؟
للمفارقة،
الذكريات ليست محايدة!، بعضها يأتي مثل نسيمٍ عليل، يعيد إلينا الدفء، وكأننا
نستنشق مرةً أخرى رائحة الأيام التي مضت، نسمع ضحكات أشخاص اختفوا، ونلمس لحظاتٍ
لم نعد نملكها، لكنها لا تزال تنبض داخلنا كأن الزمن لم يمر، إنها لحظات لا تكتفي
بأن تُروى في الذاكرة، بل تعيد إحياء إحساسها بكل تفاصيله: تلك الأمسية الماطرة
التي حملت في طياتها اعترافاً صادقاً، أو نظرةٌ أخيرة لم ندرك أنها الوداع، أو حتى
ضوء الشمس الذي انعكس يوماً على زجاج نافذة، فحفر في الروح صورة لم نعرف حينها
أنها ستصبح ذكرى نشتاق إليها.
لكنّ
الذكريات ليست كلها رحيمة!، بعضها يأتي مثل سهمٍ مسموم، يطعننا في أكثر المواضع
هشاشة، ويجعلنا نرتجف، كأنّ جراحنا القديمة لم تلتئم، وكأنّنا لم نغادر ذلك الألم
يوماً، وربما الأسوأ من الذكريات المؤلمة، تلك التي تأتي بصمتٍ خانق، لا تبكي ولا
تصرخ، لكنها تترك في القلب ثقلاً لا يُحتمل!، إنها تلك الذكريات التي لا نعرف كيف
نتعامل معها: هل ننكرها أم نواجهها؟ هل نهرب منها أم نسمح لها بأن تقتات على
أرواحنا شيئاً فشيئاً؟ إنها الحكايات غير المكتملة، والأسئلة التي لم تجد أجوبة،
والوجوه التي غابت قبل أن نقول لها كل ما أردنا.
أفلاطون
قال إن الإنسان يعيش بين عالمين: عالم المحسوس وعالم المثل، فهل الذكريات هي تلك
البوابة التي نطلّ منها على عالمٍ موازٍ، حيث يمكن لكل شيء أن يبقى كما كان، دون
تغيير، دون خيبات، دون افتقاد؟ أم أنها مجرد أوهام نصنعها لنخفف من قسوة الحاضر،
لنمنح أنفسنا عزاءً بأن شيئاً منّا لم يضع تماماً؟ ألسنا، في نهاية الأمر، أسرى
لذكريات نحبسها ونحررها في آنٍ واحد؟
لكن،
ماذا لو لم تكن الذكريات مجرد أصداء لما كان، بل كانت جزءاً مما سيكون؟ ماذا لو
كان الماضي، بدلاً من أن يكون سجناً، هو جسرٌ يحملنا نحو فهم أعمق لأنفسنا؟ ربما
تكون الذكريات، بكل ما فيها، هي جزء من ذلك الخيط الخفي الذي يربط بين الأمس
والغد، هي تلك الشرارات الصغيرة التي تجعلنا نستمر، حتى عندما يبدو الحاضر فارغاً من المعنى. قال جبران خليل جبران: "إنما الذكرى، طريقٌ
من نور، ينبثق من أعماق النفس، ويمتد إلى اللانهاية"، فربما لا تهمس الذكريات
إلينا لمجرد استعادة ما مضى، بل لتضيء لنا الدرب نحو ما سيأتي.
في
النهاية، لا يمكننا الهروب من همس الذكريات، لأنها ليست مجرد صور قديمة أو أحداث
انتهت، بل هي نبضٌ مستمرٌ في أعماقنا، يربط بين ما كنّا وما نحن عليه وما سنكون!،
إنها تلك الخيوط غير المرئية التي تنسج ماضينا في حاضرنا، وتجعلنا، رغم كل شيء،
نحمل أجزاءً من الأيام التي ظننا أننا تركناها وراءنا!، قد تكون همساً دافئاً
يربّت على أرواحنا المنهكة، يعيد إلينا لحظاتٍ من السكينة والفرح، وقد تكون صرخةً
مدوية توقظ فينا ألماً ظنناه خمد، لكنها تظل هناك، تذكّرنا بأننا كنا، وما زلنا،
وسنبقى دائماً نعيش في ظلّها.
الذكريات
ليست مجرد أحداثٍ مسجلة في أرشيف العقل، بل هي أعمق من ذلك، إنها عوالم من المشاعر
والتجارب لا تموت بمجرد مضي الزمن، بل تظل متقدة في زوايا الوجدان، جاهزة للعودة
في أي لحظة!، أحياناً، تكفي لمسة ناعمة على سطح الأشياء، لتعيد إلينا ما كنا نظنه
ضائعاً!، وربما، لو فكرنا في الأمر، لوجدنا أن الذكريات ليست مجرد استعادةٍ لما
مضى، بل هي أيضاً تذكيرٌ خفيّ بما نحن عليه، وبما فقدناه، وبما اكتسبناه في رحلة
الأيام.
ولعلّ
أجمل ما يمكن أن نقوله عنها هو: إنها ليست مجرد ماضٍ، بل حياةٌ أخرى، تنتظر أن
نعيشها مرةً بعد مرة، في كل مرةٍ تهمس فيها في قلوبنا، كأنها نافذة مفتوحة على
ذواتنا الحقيقية، تلك التي تشكّلت من ضوء التجارب وظلال الفقد، ومن الأوقات التي
شكّلتنا، حتى وإن بدت بعيدة.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق