الثلاثاء، 25 مارس 2025

 

بين الثقة والخيبة: وجوه لا تعرفها!

 

من العجيب أن بعض المواقف في الحياة لا تنتهي بانتهائها، بل تظل تتردد في الذاكرة كأصداء بعيدة، وتُثير في النفس دهشة لا تبلى!، هناك لحظات نعيشها بكل صدق، وبكل محبة، وبكل يقين أننا نحسن الاختيار، ثم ذات يوم، وبدون مقدمات، نكتشف أن الصورة التي كنا نراها لم تكن إلا انعكاساً زائفاً على سطح الماء، بينما الحقيقة غارقة في القاع، بعيدة عن أعيننا، والأكثر قسوة، أن تأتي الخيبة من حيث لم نكن نحتسب، ومن حيث الأمان والطمأنينة، ومن حيث كنا نظن أن الأيدي التي تمتد إلينا هي أيدٍ تحتضننا لا تطعننا.

 

كنت شاباً في مقتبل العمر، أعيش أيام الشباب بحماسها وبساطتها، وكان لي صديق مقرّب، رافقني في تفاصيل الحياة اليومية حتى ظننت أن صداقتنا ستدوم كما هي، لا يغيرها الزمن!، كنا لا نفترق، ونقتسم أحلامنا وأفكارنا وضحكاتنا، وكان بيننا من الصفاء ما يجعلنا نؤمن أن هذه العلاقة ستبقى ما بقي فينا النبض!، كان يقول لي ممازحاً: "يجب أن تتزوج من عائلتي، حتى تصبح واحداً منا إلى الأبد!"، وكنت أبتسم لهذه الفكرة، ولم أفكر يوماً أنها ستكون اختباراً لصِدق النوايا!، كنت أراه نقياً كما كنت، ولم يخطر ببالي أن النقاء أحياناً يكون مجرد قناع شفاف يخفي تحته ما لا يخطر على بال.

 

مرت الأيام، وبدأت أتخذ خطواتي نحو الاستقرار، وقررت الزواج!، وكما هي العادة، أرادت عائلة العروس أن تسأل عني، فتواصلوا مع من يعرفني، وكان من بينهم هذا الصديق، لم أكن أعلم بذلك حينها، ولم يخطر ببالي أنني قد أُختبر يوماً في ميزان أحدهم.

 

ثم جاء اليوم الذي أخبرتني فيه زوجتي، وسط حديث عابر، أن صديقي كان من بين قائمة من سألوا عني، فابتسمت بثقة، كمن يعرف الإجابة قبل أن تُطرح، وقلت لها: "بالتأكيد لم يقل عني إلا خيراً!"، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً.

 

الصديق الذي كان يقاسمني الطريق، والذي عرف عني أسراري، والذي رأى قلبي كما هو دون تزييف، تحدث عني كأنه لم يعرفني قط، وقال عني ما لا يُقال، ورسم صورة مشوهة لي أمام من أرادوا أن يروا الحقيقة!، كنت بالنسبة له إنساناً مغروراً، وكثير الحديث، ومدّعي الثقافة، ومتعجرفاً، ومتلوناً... كلمات لو قيلت من عابر سبيل لربما عبرتها، لكن أن تأتي من صديق، فهذا ما لا تستوعبه النفس بسهولة.

 

كنت أتخيل ردوده عندما سُئل عني، وكنت أراه يتحدث عني وكأنه يحكي قصيدة مدح، ويروي عن صداقتنا بكل فخر، ويذكر مواقفي، ويصفني بصدق كما كنت أراه!، لم أكن أتوقع لحظة واحدة أنه سيكون سيفاً موجهاً إلى ظهري، وأن يكون أول من يفتح الباب لسوء الظن، وأن يكون أول من يضعني في موضع الشك، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة ليقول كل ما في قلبه، وكأن الكلمات كانت حبيسة صدره، فخرجت فجأة كوحش انطلق من عقاله.

 

كان يمكن لهذه الكلمات أن تفسد مستقبلي، وأن تهدم الحلم الذي بنيته مع من اخترتها شريكة لحياتي، لكن الله لطيف، والعائلة التي سألت لم تأخذ بكلماته وحدها، بل استمعت لغيره، ومضى الأمر كما أراد الله، وتزوجت وأنجبت وعشت حياة مستقرة امتدت لعشرين عاماً، لكن رغم مرور كل هذه السنوات، بقي السؤال معلقاً كغيمة سوداء في أفق ذاكرتي: لماذا؟

 

لماذا يفعل ذلك صديق عرف عني كل شيء؟ لماذا طعنني في ظهري بينما كنت أظنه سندي؟ هل كان حسداً؟ هل كان نفاقاً؟ هل كان ضعفاً في النفس دفعه ليخون أمانة الصداقة؟ لم أجد إجابة، ولم يحاول هو يوماً أن يبرر.

 

بحثت في كل موقف، وفي كل كلمة، وفي كل لحظة جمعتنا!، كنت أتذكر كيف كنا، وكيف كنت أتعامل معه بعفوية، وكيف لم أنظر إليه يوماً من علٍ رغم أننا لم نتشابه في التعليم ولا الطموح، لكنه اختار أن ينظر إليّ نظرة أخرى، نظرة لم أرها في عينيه حين كنا معاً، لكنها تجلت عندما تحدث عني بعيداً عني.

 

كانت الحياة أمامي ككتاب مفتوح، إلا أن هذه الصفحة ظلت غامضة، سوداء، لا أستطيع فهمها!، لم يكن مجرد صديق، كان رفيقاً، وكان قريباً لدرجة أنني لم أشك يوماً أنه قد يخذلني، ربما كنت ساذجاً في ثقتي، وربما كنت أبالغ في حسن الظن، لكنني لم أكن أبداً مستعداً لهذه الطعنة.

 

بعد هذه الحادثة، قطعت علاقتي به، ليس انتقاماً، ولكن لأن هناك جرحاً لا يلتئم، ولأن هناك خيبة لا تتلاشى ربما غفر القلب، لكن الذاكرة لم تمحُ، ولا أظنها ستمحى.

 

العبرة التي تعلمتها؟

 

ليس كل من يبتسم في وجهك يحبك، وليس كل من يمازحك صادقاً معك!، هناك من يرتدي أقنعة لا تخلع إلا عندما يكون بعيداً عنك!، فلا تحزن إن خذلك أحدهم، فربما كانت خيانته نعمة خفية أبعدتك عن شرٍ أكبر.

 

لا تكن ساذجاً في ثقتك، ولكن لا تفقد إيمانك بالناس!، ستجد في الحياة وجوهاً تحمل النور، ووجوهاً تكتسي بالظلال، ولن تستطيع دائماً أن تميزها منذ اللحظة الأولى، وربما ستحتاج إلى تجربة مؤلمة لتكتشف حقيقة من ظننته يوماً جزءاً منك، لكن الأهم من كل ذلك، ألا تجعلك خيانة شخص واحد تفقد ثقتك بالجميع.

 

ستظل هناك قلوب نقية، وأصدقاء أوفياء، وأشخاص يصدقونك حين يحتاج الآخرون إلى من يشوهك، ستجدهم في أوقات لا تتوقعها، وسيمنحونك من الحب والوفاء ما يعوضك عن كل ألم مررت به.

 

وفي النهاية، قد تكون الطعنات التي تأتينا من أقرب الناس إلينا هي ما يجعلنا أقوى!، وقد نظل نحمل جروحها، لكنها تعلمنا كيف نرى الحياة بوضوح، وكيف نفرق بين الأصيل والمزيف، وكيف نكون أكثر حذراً، دون أن نفقد نقاء أرواحنا.

 

ربما نكتشف متأخراً أن بعض الصداقات لم تكن سوى دروس قاسية، وأن بعض الوجوه التي أحببناها لم تكن لنا، وأن البعض لم يكن يُكنّ لنا سوى ما يختبئ خلف ابتسامته، لكننا، رغم ذلك، نمضي!، لأن الحياة تمضي، ولأن الله يختار لنا دائماً الخير، حتى لو لم نفهمه في حينه.

 

الخيانة موجعة، لكنها لا تعني النهاية!، بل قد تكون بداية جديدة، نرى فيها الأشياء بعيون أكثر وعياً، ونمضي في الحياة ونحن نعرف جيداً من يستحق أن يكون معنا ومن يجب أن نتركه خلفنا.

 

جهاد غريب

مارس 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تتنفس السماء من صدرك!

  حين تتنفس السماء من صدرك!  كانت الغيوم تمرُّ كسفنٍ من قطنٍ مبلل، تجرّ خيولها الخفية خيوطًا من ضوء شاحب على مرآة البحر. وقفتُ على حافة الها...