الخميس، 20 مارس 2025

 

قلوب ممتلئة.. حين يكون الوداع امتداداً للحب!

 

في حياة كل منا، تأتي لحظات تُشبه العاصفة التي تُقلب كل شيء رأساً على عقب، لحظات تُجبرنا على مواجهة ذواتنا العارية من الأقنعة، وعلى النظر إلى ملامحنا الحقيقية دون رتوش الأمل أو زينة التوقعات!، لحظات تُعيد ترتيب فوضى المشاعر التي ظننا أنها مستقرة، لكنها كانت في الواقع مجرد رمال متحركة تحت أقدامنا.

 

نهاية علاقة حب ليست مجرد فصل يُغلق في كتاب الحياة، بل هي زلزال داخلي يهز أركان الروح، ويُسقط بعض الجدران التي احتمينا خلفها، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن نوافذ لم نكن نعلم بوجودها!، قد تبدو هذه النهاية كصفحة ممزقة، كلوحة فقدت ألوانها فجأة، لكن في عمق الألم تكمن بداية جديدة، بداية لا يشترط أن تكون واضحة المعالم، لكنها تحمل في طياتها بذرة أملٍ صغيرة، كامنة بين أنقاض ما كان، تنتظر فقط الوقت المناسب لتنمو.

 

في لحظات الوداع، يتكثف الزمن، يصبح أثقل من أن يُحتمل، وكأن كل دقيقة تُضاعف حملها على القلب، تُطيل أمد الفراق قبل أن يقع فعلياً!، فتتجمد المشاعر في مساحاتها الضيقة بين القلب والعقل، فتختلط الرغبة في البقاء بالخوف من الاستمرار، يتصارع الأمل الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة مع الحقيقة القاسية التي تمد يدها إلينا لتأخذنا إلى الضفة الأخرى!، في تلك اللحظة، يتحول الحب إلى مرآة قاسية وصادقة، تعكس وجوهنا المتغيرة، تلك التي لم نكن نعرف أننا نحملها، وجوه منكسرة أحياناً، متعبة أحياناً، لكنها رغم كل شيء، وجوه أكثر نضجاً، وأكثر معرفة بأنفسها.

 

الفراق ليس حدثاً عابراً، بل تجربة تزلزل الروح، تترك خلفها فراغاً أشبه بحقل مهجور، حيث تتردد أصداء الذكريات بين أطلال المشاعر التي عشناها، ربما نسمع ضحكة قديمة تتسلل إلى مسامعنا في لحظة شرود، أو نشتم ظل عطرٍ كنا نعرفه جيداً فتهتز قلوبنا كما لو كان الحاضر يهمس لنا بذكرى الماضي، ليست الذكريات مجرد أحداثٍ ولّت، بل هي أوطان صغيرة حملتنا ذات يوم بين أحضانها، وعندما نفترق عنها، نشعر وكأننا فقدنا جزءاً من انتمائنا، من دفء أيامنا التي لن تتكرر بذات التفاصيل مرة أخرى.

 

يقول جبران خليل جبران: "الحب لا يعرف العمق إلا إذا عرف الألم". نعم، الألم هنا ليس مجرد عارضٍ مؤقت، بل هو الوجه الآخر للحب، والعلامة الأشد وضوحاً على أننا عشنا بصدق، وأننا لم نكن مجرد عابرين في حكايات بعضنا البعض، إنه الجسر الواصل بين ما كنّا عليه وما سنصبح عليه، وبين الحنين والشفاء، وبين الانكسار وإعادة البناء!، لا يمكن للمرء أن يعرف مدى عمق البحر إلا عندما يتعرض للغرق فيه، وكذلك الحب، لا نعي حدوده الحقيقية إلا عندما نتألم بفقده.

 

نهاية العلاقة ليست نهاية الحب، بل هي إعادة تشكيلٍ له، انتقاله من حضورٍ ملموس إلى أثرٍ خفيّ، من كلماتٍ تُقال بصوتٍ مسموع إلى رسائل صامتة داخل القلب، ومن وجودٍ يومي إلى درسٍ يرافقنا مدى الحياة!، الحب الحقيقي لا يموت، لكنه يتغير، يتخذ أشكالاً جديدة، يتحول من أن يكون قصة نعيشها إلى حكمة نستنير بها، من تجربة مُمتلئة بالدفء إلى ذكرى نُعيد قراءتها بأعين أكثر نضجاً، بقلوبٍ تعلمت أن لا شيء يبقى كما هو، لكن كل شيء يترك أثره.

 

لكن كيف نمضي إلى الأمام ونحن نحمل كل هذا الثقل؟ كيف نترك يداً اعتادت أن تُمسك بنا عند التعثر، أن تُطمئن ارتجاف قلوبنا حين ضاقت بنا الحياة؟ كيف نغلق الأبواب التي كنا نظنها بلا مفاتيح، التي انفتحنا خلفها على مساحات من الأمان والحب والدفء؟ الحقيقة أن الحب، حتى في لحظات الوداع، لا يفقد قدرته على العطاء، بل يمنحنا آخر دروسه وأعمقها: أن نحب يعني أن نسمح للآخر أن يكون حراً، أن لا نجعل قيده في أيدينا امتداداً لأنانيتنا، أن ندرك أن البقاء لا يُقاس بالقرب، وأن الحب الحقيقي ليس امتلاكاً، بل احتواء حتى في الغياب.

 

ربما يكون الثمن باهظاً، أن نتحرر من وهم البقاء الأبدي مع من أحببنا، وأن نقبل بأن بعض النهايات ليست ظلماً، بل إنصافاً لنا ولهم، أن ندرك أن بعض الفصول في حياتنا يجب أن تُختتم ليُتاح للضوء أن يتسلل من جديد، لنتعلم أن الحب الذي يُصر على التشبث رغم أنف القدر، يتحول إلى سجن، بينما الحب الذي يتقبل الحقيقة يصبح درباً إلى النضج والاكتمال.

 

يقول نزار قباني: "الحب لا يقتل العشاق، هو فقط يجعلهم معلقين بين الحياة والموت". ومع ذلك، فإن هذا التعليق ليس سرمدياً، ليس قيداً أبدياً يُسلبنا قدرتنا على المضي، بل هو مجرد مرحلة، اختبارٌ للروح في قدرتها على التحول، وعلى إعادة تعريف الحب خارج إطار الامتلاك، وعلى إدراك أن الفقد لا يعني الفناء، بل هو انتقال، وعبورٌ من حالة إلى أخرى، من الامتلاء بالحضور إلى التعايش مع الذكرى.

 

لا يعني الوداع إنكار ما كان، ولا تسخيف المشاعر، بل يعني منحها مكانها الصحيح في ذاكرتنا، أن نسمح لها بأن تبقى جميلة دون أن تتحول إلى قيود، وأن نُخلّدها كتجربةٍ شكّلتنا دون أن نُسلم لها زمام مستقبلنا، وأن تتحول من جرحٍ ينزف إلى درسٍ يُنير، ومن ضعفٍ يُنهكنا إلى حكمةٍ تُقوينا، فالوداع ليس مسحاً لآثار من عبروا بنا، بل ترتيب هذه الآثار في مكانها الصحيح، بحيث لا تعيق خطونا نحو ما ينتظرنا، بل تضيء لنا الطريق إليه!،

 

الوداع الصحي.. كم هو صعب، وكم هو ضروري، أن نُغلق الباب دون أن نُحطّمه، وأن نُغادر دون أن نُلطّخ الجدران بالحزن والغضب، وأن نُدير ظهورنا دون أن نحمل في قلوبنا ما يثقلها!، فالوداع الذي لا يحمل ضغينة، ولا يحمل حقداً، بل يحمل في طياته احتراماً لتلك الرحلة التي شاركناها مع شخص كان يوماً ما جزءاً منا، هو وداعٌ لا يُجبرنا على نكران جمال ما كان، ولا يُجبرنا على البقاء عالقين في ألمه، بل يعترف بكل شيء: بالجمال الذي كان، وبالألم الذي صار، وبالحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن الحياة لا تتوقف عند محطة واحدة، بل هي نهرٌ لا يكف عن الجريان، يحملنا من ضفةٍ إلى أخرى، من حبٍ إلى آخر، من فقدٍ إلى لقاء، ومن ألمٍ إلى شفاء.

 

نحن لسنا ذات الشخص الذي بدأ القصة، ولسنا ذات الشخص الذي ودّعها، نحن أبعد من ذلك، نحن خلاصة كل ما عشناه، وكل ما تعلمناه، وكل ما كبرنا به حين كُسرت فينا أشياء، وحين رمّمناها من جديد بوعيٍ أكثر عمقاً، وقلبٍ أكثر رحابة.

 

التصالح مع الماضي ليس خياراً مؤجلاً! نؤجّله كما نؤجل ترتيب صندوق الذكريات في زاوية معتمة، بل هو فعل شجاع، وخطوة لا بد منها كي لا تظل أرواحنا أسيرة لما مضى، فكل علاقة تترك فينا بصماتها، بعضها كضوء الصباح، يدفئ القلب حتى بعد انحساره، وبعضها كأثر خطوات على الرمال التي يمحوها المدّ ببطء، لكنه لا يمحوها تماماً، بل يذيبها في ذاكرة البحر، وحتى تلك الخطوات العابرة، حتى الذكريات التي نظن أننا تجاوزناها، تبقى جزءاً من نسيج أرواحنا، خيوطاً غير مرئية تحيك ما نحن عليه اليوم.

 

لا يمكننا أن نمضي قدماً ونحن نحمل أثقالاً لم نواجهها، لم نفهمها، لم نتصالح معها، نحتاج إلى أن نقف أمام هذا الإرث العاطفي بشجاعة، لا لنُثقل أعيننا بالبكاء عليه، بل لنفكّ خيوطه المتشابكة، لنحرره من أيدينا كما نحرر أنفسنا منه، لنسمح له بالانسلال في مجرى الحياة دون أن يشدّنا إلى الخلف، دون أن يحكم قبضته على قلوبنا كلما حاولنا فتحها من جديد.

 

ليس سهلاً أن نقول وداعاً دون أن تهتز أصواتنا، دون أن يخوننا ذاك الارتجاف الخفي ونحن نحاول أن نبتسم في اللحظة الأخيرة، وكأننا نقنع أنفسنا قبل أن نقنع الآخرين بأننا بخير، بأننا لا نرتجف من الداخل، ولكن كم هو عظيم أن يكون هذا الوداع نقياً، بلا شوائب، بلا حقد، بلا رغبة في الانتقام، بلا محاولات يائسة للتمسك بما أصبح رماداً في أيدينا.

 

الحب الذي كان يستحق أن يُعاش، يستحق أيضاً أن يُغلق بسلام، يستحق أن يُمنح كرامة النهاية، كما مُنح بهجة البداية، ليست البطولة في أن نُحكم قبضتنا على ما يتلاشى، بل في أن نعرف متى نتركه يرحل، متى نقول: "شكراً" بدلاً من "لماذا؟"، متى نُدرك أن الحب الحقيقي لا يتلاشى، بل يتخذ أشكالاً أخرى، أهدأ، أنضج، أكثر حكمة.

 

يقول محمود درويش: "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، ونحن أيضاً، في أعمق أعماقنا، لا نريد للحب أن ينتهي، لكننا نتعلم، رغماً عنّا، أنه لا يختفي، بل يتحوّل، ويتخذ أشكالاً أخرى، ويتجسد في احترام لا يخفت، وفي امتنان لما كان، وفي ذكرى دافئة نسترجعها يوماً بابتسامة هادئة، لا بحرقة قلب!، فالحب الذي عشنا معه كل شيء، لا يمكن أن يموت، بل يعيد تشكيل نفسه، ربما كحكاية نرويها لأنفسنا، ربما كتعلم عميق لما يعنيه أن نُحب، وربما كضوء خافت يرافقنا دون أن يُعيق خطونا إلى الأمام.

 

وعندما نفتح نافذة المستقبل، نجد أن العالم لا يزال واسعاً، وأن القلب، رغم جراحه، لا يزال قادراً على النبض، وعلى الحب من جديد، وعلى استقبال ضوء الصباح كما لو أنه لم يعرف ليلاً طويلاً!، نحن لا نخون الماضي حين نقرر المضي قدماً، بل نكرّمه حين نسمح لأنفسنا بالحياة من بعده، وحين لا نجعل خسارة الحب تتحول إلى خسارة القدرة على الحب، لأن الحب لم يوجد ليكون قيداً، بل ليكون امتداداً، وليثبت، حتى في رحيله، أنه كان حقيقياً.

 

نودّع بسلام، لكننا لا نطفئ النور!، ونمضي بقلوب ممتلئة لا فارغة، لأن الحب لا يُمحى، بل يتحول إلى ضوء خافت يرافقنا كذكرى دافئة في ليالي الوحدة، وكحكمة نتمسك بها حين نبدأ من جديد. وداعاً.. ولكن ليس إلى الأبد، بل وداعاً لحب كان، حب لم يُخلق ليبقى، لكنه ترك أثره فينا، نقش في أرواحنا درساً لا يُمحى.

 

نمضي، ليس لأننا نسينا، ولكن لأن الحياة تدفعنا إلى الأمام كما يدفع الموج السفن نحو آفاق جديدة. نُدرك أن بعض الحكايات لم تُكتب لتكتمل، لكن هذا لا يعني أنها لم تكن جميلة، ولا يعني أنها لم تستحق أن تُعاش بكل تفاصيلها!، نمضي لأن الشمس لا تنتظر الحزانى، ولأن القلب، رغم كل شيء، لا يتوقف عن البحث عن الدفء، وعن النبض، وعن المعنى.

 

نحمل في أعماقنا أولئك الذين عبروا دروبنا، ليس كأشباحٍ تُطاردنا، بل كنجومٍ تضيء سماء ذاكرتنا، نرفع رؤوسنا يوماً، فنبصرهم هناك، بعيدين، لكنهم لا يزالون يلمعون، وهكذا، نتعلم أن الحب لا يضيع، بل يتغير شكله، ويتحول إلى دعاءٍ صادق، وإلى ابتسامة نرسلها للريح، وإلى هدوءٍ يملأ القلب حين نتذكر دون ألم، ونُحب دون خوف، ونمضي دون ندم.

 

نحن لا نخون الماضي حين نقرر الحياة بعده، بل نكرّمه بأن نحيا كما تمنى لنا أن نحيا، بأن نسمح للحب أن يزورنا من جديد، بأشكاله المختلفة، بوجوهه التي لم نلتقِها بعد، فالحب، في النهاية، ليس قصة واحدة، ولا وجهاً واحداً، ولا لحظةً واحدة، بل هو شجرة تتجدد فروعها كلما آمنا بأننا نستحق أن نُزهر من جديد.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!

  حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!  في زحام الحياة، ثمة أشياء لا تُرى، لكنها تُسمع. أشياء لا تُلمس، لكنها تُحس. ...