جراح تُنبت أجنحة!
كانت المعلمة تتجه كل صباح إلى المدرسة،
تسير بين أزقة تضجّ بذكريات من مرّوا قبلها، حيث علّمت أجيالاً وصاغت في قلوبهم عشقاً
للغة العربية. لم تكن مجرد معلمة، بل رمزاً للتفاني، وصورةً للالتزام، وجسراً يصل بين
العلم والحياة. مع كل درس تلقيه، كانت تغرس في نفوس تلاميذها بذور الأمل ممزوجة بالحكمة،
معطرة بتجارب العمر.
لم تكن امرأة عادية، بل كانت تحمل في قلبها
حياة بأكملها، تجمع بين مهارة الإدارة، وشغف التعليم، وموهبة الكتابة. لم تكن تكتب
حروفاً فقط، بل تروي حكايات تشبه النوافذ، تطل منها على أرواح متعبة وأحلام ضائعة،
فتأخذ القارئ إلى تفاصيل حية تلامس القلب، ثم تتركه بمزيج من الحزن والدهشة، تماماً
كما تفعل الحياة بكل من يعبرها.
في وقت مبكر، أدركت المعلمة أن السعادة
الحقيقية لا تعتمد على وجود الآخرين، لكن الطريق نحو هذا الإدراك لم يكن هيناً. من
بين كل العلاقات التي مرّت بها، كانت صديقتها المقربة هي الدرس الأقسى، والتجربة الأكثر
ألماً! تشاركت مع صديقتها لحظات من الضحك والبكاء، وجمعت بينهما ذكريات تشبه لوحات
مضيئة في الذاكرة، لكنها شعرت، ذات يوم، بأن شيئاً ما قد تغيّر. لم تعد الصداقة كما
كانت، إذ باتت ترى في عيني صديقتها ظلالاً لم تألفها من قبل: استغلال للحظات ضعفها،
غياب الدفء، وبرود غير مبرر، كأن كل شيء جميل بينهما قد أصبح شاحباً ومبتوراً. تساءلت
حينها: أكانت علاقتها مجرد وهم؟ أم أن الحب الصادق قد يتحول إلى شيء بهذا الجفاء؟
ليالٍ طويلة قضتها في وحدتها، تتأمل تفاصيل
الوجوه والأحداث، وتتحسس نبض قلبها المثقل بالخيبة!، لم تكن الوحدة مجرد فراغ، بل مواجهة
مريرة مع ذاتها، ومع أحلامها وأخطائها، ومع نقاط ضعفها وعثراتها، كانت تواسي نفسها
بأن ما تمر به ليس إلا جزءاً من رحلتها، ودرساً جديداً يعيد ترتيب أفكارها ويقودها
نحو الأهم. أدركت أن الاعتماد على الذات هو السبيل إلى التوازن، وأن تعليق الآمال على
الآخرين قد يكون عبئاً أحياناً، وكان عليها أن تتعلم، وإن كان بثمن، أن السعادة تولد
في الداخل، لا تأتي من الخارج.
بعد تلك الليالي، جاء القرار واضحاً في
روحها: حبها وتقديرها لذاتها يجب أن يسبق أي علاقة أخرى، وثقتها ليست باباً مفتوحاً
لكل من يطرق!، فرسمت حدوداً واضحة لا يتجاوزها أحد، وأحاطت قلبها بدرع من الوعي، لا
لتنعزل عن الآخرين، بل لتحمي نفسها من أن تُستنزف مرة أخرى. فهمت أن التعلق المفرط
قد يكون مخاطرة، وأن الثقة لا تُمنح عبثاً، بل تُبنى على أسس متينة ووعي ناضج. صارت
تتعامل بحب واحترام، لكن بوضوح يرسخ كرامتها أولاً، تردد في داخلها: "كرامتي ليست
مجرد كلمة، بل هي نبع قوتي".
اكتشفت المعلمة أن الإنسان يتغير بمرور
الأيام، وأن التشبث بالماضي يشبه محاولة الإمساك بالماء بين الأصابع، وأن الألم المستمر
ليس إلا ظلاً ثقيلاً يحجب عنها نور الحياة. كانت الذكريات تحاول شدها إلى الوراء، لكنها
لم تستسلم! فتحررت من قيدها، وفتحت قلبها لآفاق جديدة، قررت أن تنضج أكثر، وأن تكتسب
مزيداً من الحكمة، فبدأت تعلم طلابها دروساً مستوحاة من حياتها، تقول لهم بصدق الأم
التي تروي لأبنائها: "لا تخافوا من التغيير، فهو جزء من نموكم، والعالم يتسع لكم
بقدر ما تتسع رؤيتكم له".
كانت التجربة قاسية، لم تكن مجرد خيبة
بل جرحاً يترك أثراً عميقاً!، في البداية، وجدت نفسها مشدوهة أمام طوفان من المشاعر
المتضاربة، تعصف بها أمواج القلق وفقدان الثقة بالنفس!، ظنت للحظة أنها لن تقدر على
الوقوف من جديد، لكن في أعماقها لم يكن هناك مجال للاستسلام. اختارت أن تواجه الألم
بجرأة، أن تحاربه لا أن تخضع له، وكان الورق ملاذها!، تكتب وتبوح بما تعجز عن قوله،
وتترك مشاعرها تنساب على السطور حتى بدأت تخرج تدريجياً من أسر الظلم، وتنظر إلى نفسها
بمنظور أكثر وضوحاً وشفافية.
بمرور الأيام، شعرت بتغير عميق، وأصبحت
ترى في الحياة إمكانيات لا حدود لها، أدركت أن الأمل لا ينطفئ مهما اشتد الظلام، وأن
الطرق أمامها ما زالت مشرعة على احتمالات جديدة!، وقررت أن تستمر في بناء علاقات صحية،
تقوم على الاحترام المتبادل والصدق، فنقلت خلاصة تجاربها إلى طلابها، تشاركهم حكمتها،
وتعزز فيهم الأمل بأن الحياة، رغم ما قد تحتويه من ألم، مليئة بفرص الشفاء والنمو،
وبقيت هي نموذجاً حياً للصمود، نضج وُلِد من رحم الألم، وقوة إنسانية تأبى الانكسار،
تمضي نحو الحياة بعزم جديد، وبابتسامة تشرق من بين جراح الماضي.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق