الخميس، 27 فبراير 2025

 

ما بين النور والظل: رحلة في معاني الخير والمعرفة والجهل والشر!

 

في أعماق كل روح بشرية، يدور صراع خفي بين النور والظل، وبين الخير الذي يسعى إلى بناء عالم أكثر عدلاً، وبين الشر الذي يحاول أن يجعل الخراب وسيلة للنجاح.

 

في كل حقبة، نجد من يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الشر قد يكون أحياناً طريقاً للخير، ولكن هل يمكن للظلم أن يخلق عدلاً؟ أو للحرب أن تصنع سلاماً؟

 

الحكمة الأولى التي يجب أن نرسخها في عقولنا أن الغاية لا تبرر الوسيلة، إذ لا يمكن أن يكون هناك صلة بين الظلم والعدل، تماماً كما لا يمكن للنار أن تكون وسيلة لحفظ الحياة، إلا إذا كانت محكومة بعقل وقوانين.

 

الحرب، مهما حاول البعض تجميلها، ليست سوى فوضى تلتهم الأبرياء، والسعي للخير عبر وسائل غير أخلاقية، هو مجرد خداع للنفس، ومحاولة بائسة لتجميل القبح.

 

إن البحث عن العدل والرحمة والتعاون هو السبيل الوحيد لتحقيق الخير الحقيقي، وليس القوة، أو القمع، أو التضحية بالمبادئ لأجل نتائج آنية. قال غاندي ذات يوم: "لا يمكن للشر أن يجلب الخير، تماماً كما لا يمكن للشوك أن يُثمر عنباً".

 

قد يحاول البعض إقناع أنفسهم بأنهم يسيرون على الطريق الصحيح، حتى وهم يغرقون في الخطايا الصغيرة، متناسين أن الحقيقة لا تختفي بمجرد إغماض العينين.

 

لا يمكننا أن نخدع أنفسنا إلى ما لا نهاية، فهناك لحظة، مهما تأخرنا عنها، ستفرض علينا مواجهة الواقع. كم من شخص أقنع نفسه بأنه سعيد، وهو في الحقيقة هارب من مواجهة عيوبه؟ وكم من مجرم برر أفعاله لنفسه، حتى صدّق أنه مظلوم؟ الحقيقة تظل حقيقة، والواقع لا يتغير بمجرد تغيير زاوية النظر إليه. قال دوستويفسكي: "أسوأ الأكاذيب هي التي نرويها لأنفسنا".

 

إن كان هناك شيء يعزز الخير في المجتمعات، فهو نشر العلم والمعرفة للجميع، وليس احتكارها لقلة متعالية، فالعلم الذي يخدم الإنسان هو العلم الذي يصل إليه، لا ذاك الذي يظل حبيس النخبة، أو يُستخدم كأداة للسلطة، ومن السذاجة الاعتقاد بأن مجتمعاً جاهلاً يمكنه أن يبني مستقبلاً مزدهراً، إنما المعرفة هي الوقود الذي يحرك الأمم، وحين تكون في متناول الجميع، تصبح أداة للتحرر، وليس سلاحاً في يد الأقوياء.

 

لكن، ورغم كل ذلك، أليس من العجيب أن نجد بين الجهلاء من يتحلون بالصدق والنقاء أكثر من بعض المتعلمين؟ قد يكون الإنسان بسيطاً في تعليمه، لكنه عظيم في أخلاقه، وقد يكون عالماً في تخصصه، لكنه فقير في قيمه.

 

المعرفة مهمة، لكن الأخلاق تسبقها، فقد نجد شخصاً لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته، لكنه أكثر عدلاً وأمانة من شخص يحمل أرقى الشهادات، فالاستقامة ليست نتاج المعرفة فقط، بل تنبع من الفطرة الصافية.

 

هناك من يمتلك سرعة بديهة مذهلة، لكنه يستخدمها بطرق ملتوية، وهناك من يفهم الأمور ببطء، لكنه يمضي بثبات نحو الحق، فالفهم السريع ليس فضيلة إن لم يكن مرتبطاً بالحكمة، تماماً كما أن القوة ليست خيراً إن لم تكن محكومة بالعقل.

 

الذكاء الحاد، بلا أخلاق، يمكن أن يكون أخطر من الجهل نفسه، فالمخادع ذكي، والمحتال فطن، لكن هل يمكن أن نعتبرهم ناجحين؟ قال ألبرت أينشتاين: "العلم دون ضمير ليس سوى خراب للروح".

 

حين ننظر إلى الجهل كمرض، والعلم كعلاج، نفهم لماذا تنهض أمم حين تهتم بالعلم، وتسقط أخرى حين تهمله، فالجهل، بحد ذاته، ليس مشكلة، بل المشكلة في من يتمسك به ويعتبره فضيلة.

 

العلماء ليسوا مجرد حملة شهادات، بل هم أولئك الذين يحملون مسؤولية إصلاح المجتمعات، ونشر النور حيث يسود الظلام، إنهم أطباء يداوون العقول، وليس مجرد ناقلي معلومات. قال فرانسيس بيكون: "المعرفة قوة، لكنها تكون قوة حقيقية حين تستخدم لتحرير العقول، لا لاستعبادها".

 

في نهاية المطاف، نجد أنفسنا أمام طريقين متناقضين: طريق المعرفة والعدل، وطريق الجهل والظلم!، ولا يوجد حل وسط بين الخير والشر، ولا يمكن للشر أن يقود إلى الخير، مهما زُين بالأعذار.

 

العالم لا يحتاج إلى مزيد من الأذكياء الماكرين، ولا إلى المزيد من المتعلمين بلا ضمير، بل يحتاج إلى من يحمل العلم والأخلاق معاً، لأن أحدهما بلا الآخر ليس سوى طريق إلى الضياع.

 

جهاد غريب

فبراير 2024

 

 

حين لا يُقال كل شيء... رسائل بين السطور!

 

يقول شكسبير: "كل العالم مسرح، وكل الرجال والنساء مجرد ممثلين". وفي هذا المسرح الكبير، لا تُقال الحقيقة دائماً كما هي، بل تتشكل عبر الإيماءات، والنظرات، والصمت المتعمد، وحتى الكلمات التي تُقال على غير معناها!، أحياناً يكون الصمت أكثر بلاغة من الكلام، وأحياناً تكون الابتسامة الحذرة أكثر صدقاً من ألف تصريح. في حياتنا اليومية، كما في المسرح، نحن نتقن فن الإيحاء، لأن الحقيقة المباشرة قد تكون قاسية، أو مُحرجة، أو ببساطة غير ضرورية.

 

حين يتحدث الصمت... بأكثر مما يُقال!

في مقهى صغير، تحت إضاءة دافئة تُلقي بظلال خفيفة على الطاولات، جلس سامي يراقب حركة أصابعه حول فنجان القهوة، كأنها تحاول أن تستجمع الكلمات التي لم يجد لها طريقاً. تجلس "ليلى" أمامه، عيناها تتفادى عينيه، وابتسامتها التي كانت يوماً مشرقة، باتت خافتة، كأنها ظل لذكرى بعيدة!، لا أحد منهما قال شيئاً واضحاً، لكن كل شيء كان يُقال في الصمت. ليلى ترتب منديلها الورقي بلا اكتراث ظاهر، لكنه يعلم أنها لم تفعل ذلك عبثاً. المسافة بينهما لم تكن بعيدة، لكن شيئاً غير مرئي كان يتمدد في الفراغ، كأنما حواراً غير منطوق قد بدأ للتو، يملأ اللحظة بكل ما لم يُقال.

 

كان المساء دافئاً، لكنه يحمل شيئاً من التوتر الخفي، مثل وتر مشدود على وشك أن يُعزف عليه. رفع عينيه نحوها أخيراً وسأل، بصوت بدا أكثر هدوءاً مما كان يتوقع: "كيف حالك؟"

رفعت نظرها للحظة، نظرة عابرة، خالية من الإجابة، ثم ابتسمت ابتسامة بالكاد تشكلت، ابتسامة من تلك التي تعني ألف شيء، لكنها لا تعني شيئاً على الإطلاق. كانت تعرف أنه يفهم، وكان يعرف أنها لن تجيب. عادت تمسك بالمنديل، تدور به بين أصابعها وكأنها تحيك به فكرة غير مكتملة. هو يعرف هذا النوع من الصمت، ذلك الذي يُقال فيه كل شيء دون أن يُقال شيء. حين أزاحت خصلة شعرها خلف أذنها، كان يخبرها أنه ما زال يراها، لكنه لن يسأل، وحين وضعت يدها على الطاولة للحظة ثم سحبتها سريعاً، كان جوابها: "لا تسأل، لأنني لن أجيب". في تلك اللحظة، كانت الرسائل تتطاير بينهما، كأوراق شجر في مهب الريح، لا صوت لها، لكنها تقول الكثير!، بدت واضحة كأنها منقوشة على جدار غير مرئي. ليلى لم تقل شيئاً، وسامي لم يطلب تفسيراً... لكن لماذا نحتاج دائماً إلى الكلمات لنفهم؟

 

اللغة التي لا تحتاج إلى نطق!

ما يجعل الرسائل الضمنية مثيرة للاهتمام ليس فقط كونها تُقال دون تصريح، بل لأنها تمنح المتلقي حرية فك شفرتها وفقاً لإحساسه وظروفه. الكلمات أحياناً ليست سوى أقنعة، كما يقول نجيب محفوظ: "الكلمات ليست إلا وسيلة يستعين بها الإنسان على إخفاء مشاعره".

 

الابتسامة التي تبدو مجاملة قد تحمل وراءها ألغازاً معقدة، والنظرة التي تمر سريعاً قد تكون أكثر تعبيراً من خطبة طويلة، هذا تماماً ما يحدث في الرسائل الضمنية!، حيث لا تُستخدم الكلمات لنقل الحقيقة، بل لإخفائها أحياناً، أو لتجميلها، أو لتخفيف وطأتها، أو ربما لجعلها أكثر غموضاً. 

 

في العلاقات الأسرية، قد يكون الصمت أبلغ من الكلام!، تتذكر ليلى كيف كانت والدتها تعبر عن غضبها بصمت طويل، ثم تنهض لتعيد ترتيب المقاعد دون أن تعلق بشيء، لكنها كانت تقول، دون أن تقول: "لقد خيّبت ظني. تتذكر كيف كان والدها يتحدث عن يومه بإسهاب، لكنه حين يختصر حديثه إلى جملة مقتضبة مثل: "كان يوماً طويلاً"، كانت تعلم أن خلفها تعباً نفسياً أكبر مما يريد أن يعترف به، هذه الرسائل غير المنطوقة أكثر تأثيراً من أي عتاب صريح، فهي تترك مساحة للتأويل، وتزرع بذور الشك، وتجعل الطرف الآخر يبحث عن تفسير حتى وإن لم يكن هناك شيء ليُفسر.

اللغة الصامتة لا تقتصر على البيوت، بل تمتد إلى كل مجالات الحياة: في الأدب، وفي السينما، وفي السياسة، وحتى في العلاقات اليومية. 

 

حين يُصبح الغموض فنّاً مقصوداً!

يبدو أن الغموض، في جوهره، ليس مجرد غياب للوضوح، بل هو أداة تُحسن استخدامها العقول الماهرة، سواء في الأدب، أو السينما، أو السياسة، أو حتى في العلاقات الشخصية. إن إتقان فن الغموض يتطلب إدراكاً عميقاً لكيفية إيصال الرسالة دون التصريح بها، وكيفية جعل الصمت أكثر وقعاً من أي خطاب مباشر.

 

في الأدب، الغموض لا يعني بالضرورة الغموض السردي المربك، بل هو المساحة التي يتركها الكاتب لعقل القارئ كي يكمل المشهد بنفسه. حين تنظر البطلة إلى الأفق البعيد في الرواية، فإنها تحمل في صمتها احتمالات لا نهائية: هل تنتظر عودة شخص غائب؟ هل تفكر في هروب محتمل؟ أم أنها تستعيد ذكرى تحاول الفرار منها؟ هذا الصمت المدروس يمنح القارئ دوراً في بناء المعنى، مما يجعله مشاركاً في النص لا مجرد متلقٍ له.

 

أما في السينما، فالصورة تصبح لغة الغموض بامتياز!، فالمخرج الذكي يعلم أن التلميح أبلغ من التصريح، وأن المشهد الذي يُترك بلا تفسير مباشر يبقى في ذاكرة المشاهد أطول!، عندما جلس زعيم العائلة المافياوية يبتسم لمعارضيه، لم يكن بحاجة لأن يهددهم مباشرة، بل كان صمته المتأمل كافياً ليملأ الغرفة برائحة الخطر.

 

لنأخذ مثالاً آخر من عالم السينما: حين ينهض مايكل في نهاية الجزء الأول من العرّاب، بعد أن أصبح هو الدون الجديد، ويُغلَق الباب على زوجته التي كانت تستجوبه بنظراتها، لم يكن هناك حاجة لأي حوار إضافي!، تلك النظرة، وذلك الإغلاق البطيء، كانا بمثابة توقيع على انتقال السلطة، وعلى التحوّل الذي لا رجعة فيه، وعلى بداية عهد جديد من الغموض والخطر، وكما تفعل الصورة السينمائية بمهارة، يلجأ الأدب إلى الغموض عبر الكلمات والتلميحات.

 

في الأدب، الغموض لا يعني بالضرورة الغموض السردي المربك، بل هو المساحة التي يتركها الكاتب لعقل القارئ كي يكمل المشهد بنفسه. حين يكتب المؤلف أن البطلة "نظرت إلى الأفق البعيد"، فإنه لا يصف مشهداً بصرياً فقط، بل يوحي بانتظار، بضياع، بحلم لا يُراد له أن يُقال، فحين تنظر البطلة إلى الأفق البعيد في الرواية، فإنها تحمل في صمتها احتمالات لا نهائية: هل تنتظر عودة شخص غائب؟ هل تفكر في هروب محتمل؟ أم أنها تستعيد ذكرى تحاول الفرار منها؟ هذا الصمت المدروس يمنح القارئ دوراً في بناء المعنى، مما يجعله مشاركاً في النص لا مجرد متلقٍ له.

 

وفي السياسة، الغموض ليس مجرد تكتيك عابر، بل حيلة مدروسة وأداة استراتيجية قد تكون أكثر نفوذاً من أي خطاب مباشر!، فالقائد الذي يقول: "نحن في مرحلة انتقالية"، قد يكون يقصد أننا أمام تغير جذري، أو ربما يقصد أننا على وشك الانهيار، لكنه يختار أن يترك الاحتمالات مفتوحة، فيسمح للشارع بالتأويل، وللمحللين بالتكهن، بينما يظل هو في موقع السيطرة على السردية، وكأن السياسة، كالفن، تدرك أن بعض الكلمات تستمد قوتها من صمت ما يحيط بها.

 

أما في العلاقات اليومية، فالغموض قد يكون فتنة تجذب، أو لغزاً يثير القلق، حسب النوايا والسياق!، هناك من يستخدمه ليترك انطباعاً جذاباً، وهناك من يتعمده لإرباك الطرف الآخر. كلمة مقتضبة في محادثة، نظرة غير مكتملة، أو حتى غياب الرد، كل ذلك يمكن أن يُترجم إلى ألف معنى، مما يخلق توتراً أو جذباً أو حتى خوفاً، حسب السياق. قال مارك توين: "الكلمة المناسبة قد تكون فعالة، لكن لا شيء يضاهي تأثير الصمت في اللحظة المناسبة". إن الغموض، حين يُتقن، يصبح فنّاً بذاته!، فنّاً يعرف متى يتحدث، ومتى يترك الآخرين يغرقون في بحر الاحتمالات.

 

الكلمات التي ترتدي الأقنعة!

الأدب والفن يعشقان التلميح، لأن الحقيقة حين تكون مستترة، تصبح أكثر إغراءً!، في روميو وجولييت، لم يقل روميو لجولييت مباشرة إنه يعشقها، بل تسلق جدارها ليلاً، وكأنه يقول: "أنا مستعد لكسر القواعد لأجلك". في السينما، قد يكون مشهد صمت طويل بين بطلين أكثر تأثيراً من خطبة حب مطولة.

والسياسة ليست بعيدة عن هذا الأسلوب، فالزعيم الذي يتجنب ذكر أزمة معينة في خطابه لكنه يتحدث عن "ضرورة التكاتف"، يرسل رسالة غير مباشرة للمجتمع!، حتى الإعلانات التجارية تستغل الرسائل الضمنية، فتربط بين منتج معين وصورة عائلة سعيدة، مما يجعل المتلقي يستشعر الارتباط دون أن يقال ذلك صراحة.

 

بين الصمت والكلام… أيهما أصدق؟

أحياناً يكون الصمت أكثر ضجيجاً من أي حديث، والرسائل الضمنية أعمق من أي تصريح، إنها تلك النظرة الطويلة التي تقول: "أنا أفهمك"، وذلك التردد قبل إرسال رسالة نصية الذي يعني: "أنا خائف مما سأقوله". نجيب محفوظ يقول: "الكلمات ليست إلا وسيلة يستعين بها الإنسان على إخفاء مشاعره". فما الذي نخفيه حين نستخدم التلميح بدلاً من التصريح؟ ولماذا نلجأ أحياناً إلى الغموض بدلاً من الوضوح؟ هل لأن الحقيقة مؤلمة؟ أم لأن بعض الأشياء تفقد سحرها حين تُقال بصوت عالٍ؟

 

كيف نقرأ ما بين السطور؟

إذا كانت الرسائل الضمنية تحيط بنا في كل شيء، فكيف يمكننا قراءتها؟ وكيف نعرف متى يكون الصمت علامة رضا، ومتى يكون غضباً مكتوماً؟ متى تكون الابتسامة مجاملة، ومتى تكون صادقة؟

ليس الجميع قادراً على فك شفرات هذه الرسائل!، البعض يقرأ الكلمات فقط!، متجاهلاً النبرة التي قيلت بها، أو النظرة التي رافقتها!، والبعض الآخر لا يلاحظ حين يتغير إيقاع المحادثة، حين يصبح الصمت أكثر تعبيراً من الكلام.

 

كيف نعرف أن صديقاً يمر بأزمة حين يقول ببساطة: "كل شيء على ما يرام؟" كيف ندرك أن زميلاً في العمل يشعر بالتجاهل، رغم أنه لم يشكُ صراحة؟ كيف نفسر أن شخصاً يرسل رسالة بـ "تمام" بدلاً من "تمام جداً"، ونشعر أن هناك فجوة لا تُرى؟ الفهم الحقيقي ليس في سماع ما يُقال، بل في إدراك ما يُخفى. الإجابة تكمن في الإصغاء، ليس فقط للكلمات، ولكن لكل ما يحيط بها!: العيون، ولغة الجسد، والترددات الصغيرة في الصوت، والفراغات بين الكلمات. بعض العبارات تأتي ثقيلة، وبعضها خفيف كالريش، حتى لو كانت تحمل الحروف نفسها.

 

بين الذكاء والتلاعب!

لكن هل كل الرسائل الضمنية بريئة؟ هنا تكمن المعضلة!، التلميح قد يكون فناً راقياً، لكنه قد يتحول إلى أداة تلاعب، حيث يُستخدم الغموض لترك الآخرين في حالة من الشك، أو دفعهم لاتخاذ قرارات غير واعية!، فحين يقول شخص: "افعل ما تراه مناسباً"، هل يمنح حقاً حرية القرار، أم يخفي رأيه الحقيقي خلف ستار المجاملة؟ وحين يُقال تعليق غامض مثل: "البعض لا يحتاج إلى توضيح"، هل هو وصف محايد، أم إشارة خفية لإثارة الشكوك؟ الحد الفاصل بين الذكاء الاجتماعي والتلاعب دقيق، لكنه واضح لمن يجيد الإصغاء بين السطور.

 

المعضلة: هل نرسل رسائل ضمنية دون أن نشعر؟

نحن لا نستقبل فقط الرسائل الضمنية، بل نرسلها أيضاً، بقصد أو دون قصد، فحين نخفض صوتنا عند الحديث عن أمر حساس، أو حين نؤخر الرد على رسالة لنُشعر الآخر بقيمته، أو حين نقول بجملة حيادية: "افعل ما تراه مناسباً"، ونحن نعني عكس ذلك تماماً!، أحياناً، لا نحتاج حتى إلى الكلمات، فالنظرات، والصمت، وحتى طريقة تنفسنا قد تحمل رسائل لم نقصد إيصالها، لكنها تصل على أي حال.

 

المعضلة الأكبر هي: متى يكون الغموض فناً، ومتى يكون هروباً؟ متى يكون التلميح ذكاءً، ومتى يكون تلاعباً؟ نحن نحب أن نُبقي بعض الأمور غير واضحة!، نُرسل إشارات بدلاً من الاعتراف الصريح، ربما لأن الحقيقة مؤلمة، أو لأن وضعها في كلمات يجعلها أكثر واقعية مما نرغب. يقول دوستويفسكي: "أكثر الأكاذيب شيوعاً هي التي نقولها لأنفسنا". وأحياناً، تكون الرسائل الضمنية التي نرسلها مجرد طريقة لتجنب الاعتراف بالحقيقة.

 

لكن ماذا عن اللاوعي؟ علم النفس يخبرنا أن بعض الرسائل الضمنية ليست مجرد أدوات تواصل واعية، بل تعكس صراعاتنا الداخلية. نحن نميل إلى إرسال إشارات غير مقصودة تكشف ما نحاول إخفاءه. قد نحاول الظهور بمظهر اللامبالي، لكن نبرة صوتنا تخوننا. قد نتظاهر بالقوة، لكن لغة جسدنا تفضح هشاشتنا!، إذن، نحن لا نكتفي بفك شيفرة الرسائل الضمنية التي تصل إلينا، بل نُتقن -أو نظن أننا نُتقن- إرسالها أيضاً!، لكن يبقى السؤال: هل نستخدمها بذكاء، أم نختبئ خلفها هروباً من الحقيقة؟

 

لا تترك نفسك للغموض!

قد يكون الغموض مثيراً، لكنه قد يكون متعباً أيضاً!، ففي العلاقات، في العمل، في الحياة، لا يمكن أن نبقى دائماً في منطقة الظلال، لا بأس ببعض التلميح، وببعض السحر الخفي في الكلمات، لكن حين تتحول حياتنا إلى إشارات مبهمة، فإننا نرهق أنفسنا ومن حولنا!، من يحبك ويهتم لأمرك، يستحق أن يسمع منك الحقيقة، لا أن يبحث عنها بين السطور.

 

لكن السؤال الكبير يظل: هل يجب أن نكون واضحين تماماً أم أن للغموض سحره؟ أحياناً يكون التلميح أذكى من التصريح، يمنحنا مساحة للاكتشاف، ويجعلنا نقرأ العيون قبل أن نقرأ الكلمات، ونسمع نبض الصمت كما نسمع ضجيج الحديث، لكن في أحيان أخرى، يصبح الغموض عبئاً يثقل العلاقات ويفتح أبواب سوء الفهم.

 

الوضوح راحة، لكنه أيضاً مسؤولية، فحين نختار الغموض، يجب أن ندرك أننا نترك للآخر مساحة واسعة للتأويل، وربما لسوء الفهم. لذلك، ربما يكون أفضل ما يمكننا فعله هو أن نستخدم الرسائل الضمنية بحكمة، لا كوسيلة للهروب، بل كلغة إضافية تعزز فهمنا للعالم من حولنا، لأن بعض الأشياء لا تُقال، لكنها تظل مفهومة... لمن يجيد الإنصات.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

الأربعاء، 26 فبراير 2025

 

الإنسان بين ما يسمع وما يفعل: رحلة الحكمة والتجربة في الحياة!

 

في كل رحلة، هناك مسافة تُقطع، ووقت يمضي، وتغيّر يحدث!، والإنسان، منذ أن يفتح عينيه على العالم، ينطلق في رحلة طويلة بين "ما يسمع" و "ما يفعل"، وبين الفكرة التي تطرق سمعه، والفعل الذي يصوغ ملامحه، لكنها ليست رحلة ذات اتجاه واحد، بل مسار متعرج، تُعاد فيه الخطوات، وتُختبر فيه القناعات، ويعاد فيه اكتشاف الصوت الذي كان مجرد همس، وتحليل الفعل الذي بدا قراراً محسوماً.

 

هل نحن أكثر مما نسمع، أم نحن فقط ما نفعل؟ هذا السؤال يرافق الإنسان في كل مرحلة من حياته، لكنه لا يجد له إجابة واحدة، بل يكتشف مع الوقت أن التوازن بين الاثنين هو سر النضج، وأنه لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، فحين يولد، يكون السمع هو البوابة الأولى للحياة، بوابة يتعلم من خلالها كيف يرى العالم بعيني الآخرين قبل أن يصنع رؤيته الخاصة، ثم، في شبابه، ينطلق في تمرده، يظن أن الفعل وحده هو الحقيقة، وأن الأذن لم تعد بحاجة لأن تُصغي، لكنه يعود لاحقاً، بعد أن يجرب، بعد أن يسقط وينهض، إلى السمع من جديد، لكن بوعي مختلف، وبإدراك أن الحكمة لا تولد من الصوت وحده، ولا من الحركة وحدها، بل من مزيجهما المتكامل.

 

في هذه الرحلة، لا يكون السمع مجرد استقبال، ولا يكون الفعل مجرد إثبات، بل يصبح كل منهما انعكاساً للآخر، يكملان بعضهما كما يكمل الليل النهار، وكما يكمل الصمت المعنى. ففي الطفولة، يتداخل السمع مع الفعل، حيث يكون الطفل ظلاً لما يتلقاه، يحاول أن يجسد ما سمعه في أفعاله البسيطة، وفي الشباب، يحاول أن يتحرر من الماضي، لكن دون أن يدرك أنه يحمل صدى كل ما سمعه، وفي الكبر، يعود إلى السمع، لا كطفل يتعلم، بل كحكيم يختار، يفرز الأصوات، ويدرك أن الحكمة ليست في كثرة ما يسمع أو ما يفعل، بل في القدرة على معرفة متى يصغي، ومتى يتحرك.

 

وهكذا، لا تكون الحياة مجرد سلسلة من الأفعال المنفصلة، ولا تكون مجرد تسجيل للأصوات، بل تكون رقصة متأرجحة بينهما!، نأخذ من الماضي صوته، ونخط في الحاضر أفعالنا، ونترك للمستقبل صدىً يروي حكايتنا. وبين "ما يسمع" و "ما يفعل"، تمتد المسافة التي تحدد جوهر الإنسان، لا كمجرد متلقٍ، ولا كمجرد فاعل، بل ككائن يعيش بين الصوت والصدى، بين الحكمة والتجربة، بين الصمت والكلمات.

 

المحطة الأولى: حين يكون السمع هو البوابة الأولى للحياة

 

يولد الإنسان صفحة بيضاء، تُخطّ عليها الكلمات الأولى بصوت أمه، وبلمسات أبيه، وبأصوات الحياة التي تتسلل إلى وعيه الناعم كضوء الفجر. يسمع قبل أن يتكلم، ويتلقى قبل أن يرد، ويراقب قبل أن يحاول، وكأن الكون كله يتحدث إليه بلغة خفية!، لغة تُصاغ من اللمسات والابتسامات والنبرات الدافئة.

 

الطفولة عالم من "ما يسمع"، حيث تتشكل المعتقدات الأولى، وتنغرس البذور الأولى للأفكار والعادات، ولكن ليس على هيئة دروس تُلقّن، بل من خلال أصوات العالم القريب. الطفل يسمع ضحكات أمه عندما يخطو خطواته الأولى، فيتجرأ على السقوط دون خوف!، ويسمع نداء أبيه وهو يناديه بحنان، فيدرك أن هناك دائماً صوتاً خلفه يحميه. يسمع قصص الجدة قبل النوم، فتتسع خيالاته وترتسم ملامح أولى لأحلامه.

 

لكنه لا يسمع فقط الأصوات الجميلة، بل يتلقى أيضاً همسات الحزن، ونبرات الغضب، وصمت القلق. يسمع حين يتهامس الكبار عن مشكلات لا يفهمها، فتتسرب إليه المعاني قبل أن يدركها وعيه، ويسمع التردد في أصواتهم، فيتعلم الخوف، ويسمع الصرامة في عباراتهم، فيتعلم الانضباط، ويسمع التشجيع، فيتعلم الثقة.

 

ثم تأتي اللحظة التي يحاول فيها أن يكون جزءاً من هذا العالم!، يبدأ في تقليد الأصوات، وفي تكرار الكلمات، وفي تجريب الحركات التي يراها، كأنما يحاول أن يُثبت لنفسه أنه ليس مجرد متلقٍّ، بل فاعل في هذا الكون الصغير من حوله. يمسك بالقلم محاولاً أن يخط أولى كلماته كما رآها في يد أبيه، ويرفع يديه مقلداً طريقة حديث أمه، ويبتسم كما تبتسم أخته الكبرى، كأنه يختبر كل ما سمعه ليعرف ما يمكن أن يتحول منه إلى فعل.

 

وهكذا، تمضي الطفولة بين أذن تنصت وعين تراقب، وبين صوت يتردد في الداخل وحركة تحاول أن تجاريه، وهنا تكمن المفارقة!، فالطفل، رغم أنه يعيش في عالم "ما يسمع"، إلا أنه لا يكتفي بالتلقي، بل يحوّل السمع إلى فعل صغير، كزهرة تتفتح أولى أوراقها، وكعصفور يحاول أولى قفزاته خارج العش، وكلما تعلم أكثر، كلما ازدادت المسافة بين ما يسمع وما يفعل، حتى يصل إلى المحطة التالية، حيث يصبح الفعل هو لغته الأولى، وصوته الخاص الذي يريد أن يسمعه العالم.

 

المحطة الثانية: حين يصبح الفعل هو لغة التمرد والإثبات!

 

ثم تأتي العاصفة!، الشباب ليس مجرد عمر، بل هو زلزال داخلي، وطوفان من الأسئلة والأحلام، يدفع الإنسان للخروج من عباءة "ما يسمع" إلى تمرد "ما يفعل"، وهنا، لا يريد المرء أن يكون مجرد انعكاس للكلمات التي ملأت طفولته، بل يريد أن يخط بيده طريقه الخاص، وأن يكون الصوت بدلاً من أن يكون الصدى، وأن يكون القرار بدلاً من أن يكون المتلقي.

 

في هذه المرحلة، تتغير المعادلة!، لم يعد السمع كافياً، ولم تعد الحكمة الموروثة تقنعه، فهو يريد التجربة، ويريد أن يرى بنفسه، أن يقع ليكتشف كيف ينهض، وأن يغامر ليعرف مدى قدرته على الصمود. يتمرد على القواعد، لا لأنه يريد الهدم، بل لأنه يريد البناء، بناء ذاته، وهويته، وصوته الخاص، ولم يعد يرى الكلمات التي سمعها في طفولته كنصوص مقدسة، بل كمساحات قابلة للتعديل، وللتأويل، وللمراجعة.

 

الشاب يقف أمام العالم ويقول: "أنا أفعل، إذن أنا موجود"، لا يكفيه أن يُقال له إن النار تحرق، بل يقترب منها ليتأكد بنفسه، ولا يكفيه أن يسمع عن صعوبات الحياة، بل يرغب في مواجهتها بجرأته، وبحماسه، وبرغبته في صنع فارق. يجرب، يخطئ، ويتعثر، لكنه يشعر بأنه يمسك زمام الأمور، حتى لو كان في داخله يتخبط.

 

وهنا، يبتعد عن "ما يسمع"، ويهرب منه، يظنه قيداً، لكنه في الحقيقة، يبني منه دون أن يشعر، فكل كلمة سمعها في طفولته، وكل نصيحة تلقاها، وكل تجربة رآها في عيون الكبار، تبقى هناك، في مكان ما داخله، وتظهر في اللحظة التي يحتاجها، حتى لو أنكرها. قد يتمرد على النصيحة، لكنه يعود إليها بعد حين، وقد يرفض الحكمة، لكنه يعيد اكتشافها بصوته الخاص، كأنه يعيد ترتيب قطع الأحجية، لا كما وُضعت أمامه، بل كما يراها هو.

 

وفي لحظات الصمت، حين تنتهي جلبة التمرد، يدرك الشاب أن كل ما فعله كان امتداداً لما سمعه، لكنه لم يكن مجرد تكرار، بل كان إعادة صياغة، إعادة تشكيل، إعادة بناء، وهنا، تبدأ ملامح النضج في التشكل، وتبدأ المسافة بين "ما يسمع" و "ما يفعل" بالتحول إلى جسر، لا إلى ساحة معركة، ولكن، هذا الجسر لا يكتمل إلا في المحطة التالية، حين يبدأ الإنسان في العودة إلى السمع، ولكن هذه المرة، ليس كطفل يتلقى، بل كحكيم يختار ماذا يسمع، وكيف يفسره، وكيف يجعله جزءاً من حكمته الخاصة.

 

المحطة الثالثة: حين يعود السمع ليصبح حكمة

 

ولكن ماذا بعد؟ ماذا يحدث عندما تتراكم التجارب، وتهدأ العواصف، ويكتشف الإنسان أن أفعاله، مهما بدت حرة وعفوية، لم تكن سوى محاولات لترجمة ما سمعه يوماً؟ هنا، يعود السمع من جديد، ولكن ليس سمع التلقي السلبي، بل سمع الحكمة، إنه الإصغاء الذي يأتي بعد ضجيج الفعل، والإدراك الذي يولد من رحم التجربة، والتأمل الذي لا يسعى للتمرد، بل للفهم.

 

في الكبر، حين تنحسر الرغبة في الإثبات، وتتلاشى حاجة الصراخ بأن "أنا أفعل"، يبدأ الإنسان في الإصغاء بطريقة مختلفة. لم يعد يسمع كي يقلد، ولم يعد يفعل كي يثبت، بل يسمع كي يفهم، ويفهم كي يختار. صار يزن الكلمات بميزان التجربة، يضع كل فكرة تحت ضوء الإدراك، ويختبر الأصوات التي تصل إليه، لا بانبهار الطفل الذي يأخذ كل شيء كحقيقة، ولا بروح الشاب الذي يرفض كل شيء بدافع الاستقلال، بل بوعي الإنسان الذي خبر الحياة وعرف أن الحكمة لا تكمن في الصراخ، ولا في الصمت، بل في اختيار متى يُنصت ومتى يتحدث، متى يتحرك ومتى يتأمل.

 

في هذه المرحلة، يصير الماضي أقرب، لكنه لا يكون قيداً، بل مرجعاً. الذكريات التي كانت تبدو مجرد صور عابرة، تتحول إلى دروس، والأصوات التي كانت تُلقى بلا اهتمام، تصبح إشارات لفهم أعمق. يبتعد الإنسان عن الجلبة، وعن الضوضاء الفارغة، وعن الجري وراء كل شيء، ويبدأ في الانتقاء. يعرف أن الحكمة ليست في كثرة "ما يسمع"، بل في إدراك ما يجب أن يسمعه!، وليست في كثرة "ما يفعل"، بل في اختيار ما يستحق الفعل.

يقول الشاعر: "وما كل ما يُسمع يُؤخذ، وما كل ما يُفعل يُندم عليه، فالحكمة تولد بين الاثنين".

 

ما بين السمع والفعل… خيط لا يُرى!

وهكذا، تبقى الحياة رقصة متأرجحة بين ما يسمع وما يفعل، أحياناً، نميل للأذن أكثر، نحتاج أن نتعلم، أن نفهم، وأن نفتح قلوبنا للصوت القادم من الخارج، وأحياناً أخرى، نحتاج أن نكسر الصمت، أن نجرب، وأن نقفز في المجهول بأفعال لم يسبقنا إليها أحد، ولكن الحقيقة العميقة هي أن الإنسان لا يعيش في أحدهما دون الآخر، فحتى حين نظن أننا في مرحلة الفعل، فإن أصوات الماضي تهمس في أفعالنا، وحين نغرق في السمع، فإن تجاربنا تحرّك قراراتنا.

 

نحن دائماً بين الاثنين، بين تلقي الحكمة وصنع القرار، بين الماضي الذي يتردد في الأذن، والمستقبل الذي نرسمه بأيدينا، وهذا التداخل ليس ضعفاً، بل هو جوهر الرحلة البشرية، حيث لا يكون السمع استسلاماً، ولا يكون الفعل تهوراً، بل يكون كل منهما جزءاً من الآخر، كما تكون الموجة جزءاً من البحر، وكما يكون الصدى امتداداً للصوت.

 

الخاتمة: المسافة التي نصنعها بأنفسنا!

 

قد يبدو أن الطفولة سمع، والشباب فعل، والكبر عودة للسمع، لكن الحياة أكثر تعقيداً من أن تُختزل في مراحل جامدة!، نحن نسمع في كل لحظة، ونفعل في كل يوم، لكن الفرق يكمن في كيفية تعاملنا مع هذه الثنائية، وفي إدراكنا العميق لمعنى ما يصل إلى آذاننا، وما تترجمه أفعالنا.

 

هل نحن مجرد صدى لما نسمعه؟ أم أننا نعيد تشكيل الأصوات في داخلنا، نصقلها، ونختبرها، ونخرجها بشكل مختلف، أقرب إلى حقيقتنا؟ هل أفعالنا استجابة ميكانيكية لما سمعناه يوماً، أم أنها قرارات واعية تنبع من تجربة ناضجة؟ وبين هذه الأسئلة، يتشكل جوهر الرحلة.

 

الحكمة ليست في السمع وحده، وليست في الفعل وحده، بل في فهم التوازن بينهما، في إدراك متى نكون آذاناً تصغي، ومتى نكون أيداً تصنع، وفي معرفة متى يكون الصمت هو الاستجابة الأعمق، ومتى يكون الفعل هو اللغة الأبلغ، فالحياة لا تمضي في خط مستقيم، ولا تُعاش بقواعد ثابتة، بل هي تفاعل مستمر بين ما يدخل إلى دواخلنا وما يخرج منها.

 

إن المسافة بين السمع والفعل ليست قدَراً مرسوماً، بل هي مساحة نعيد تشكيلها بأنفسنا، وفق ما نعيشه، وما نتعلمه، وما نختاره، فكلما أصغينا بحكمة، واتخذنا قرارات واعية، أصبحت خطواتنا أكثر ثباتاً، وأفعالنا أكثر عمقاً، وحين ندرك أن الرحلة بين "ما يسمع" و "ما يفعل" ليست مجرد مراحل نمر بها، بل هي الحياة نفسها، نصبح أكثر قدرة على رسم أصواتنا الخاصة، وعلى صنع أثر يستحق أن يُسمع.

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

حين تهمس الفكرة: أنا هنا.. دعني أفكر!

 

الفكرة… هذا الكائن غير المرئي الذي يتسلل إلى عقولنا دون استئذان، أحياناً كنغمة موسيقية خافتة تتسلل عبر نافذة مفتوحة، وأحياناً أخرى كفيضان جارف يقتلع السكون من جذوره. متى تتدفق الأفكار؟ سؤال قد يبدو بسيطاً، لكن الإجابة عليه تفتح نوافذ كثيرة في عقولنا. تتدفق الأفكار حين نكون على حافة الحلم، أو في قاع التأمل، أو حتى في خضم انشغالنا بشيء لا علاقة له بها، وكأنها تعشق المباغتة، تزورنا حين لا ندعوها وتختفي حين نلهث خلفها.

 

ثم، متى يجب أن تتوقف الفكرة؟ هل حقاً يمكننا إيقافها؟ ربما لا!، لكننا نحاول كبحها عندما تخترق حدود الراحة، وعندما تتحول من شرارة إلهام إلى عبء ثقيل!، في لحظات كهذه، نصارعها أو نحاول إسكاتها، كما لو أن الصمت يستطيع احتواء ضجيجها، ولكن، ماذا لو تركنا الفكرة تمر دون محاولة تذكرها؟ ماذا لو اعتبرنا أن بعض الأفكار لا تحتاج أن تُكتب أو تُقال، بل أن تُنسى ببساطة، لتظل حرة، عائمة في الفضاء، لا تحمل اسماً ولا هوية، فقط لأنها فكرة عابرة؟

 

ومع ذلك، ثمة أفكار لا تمر مرور الكرام!، تلك التي تسكنك بدل أن تسكنها!، لا تحتاج لاستدعائها، فهي تأتيك كضيف غير مدعو، لكنها تبقى كأنها صاحبة البيت. أفكار لا تأتي من الخارج، بل تنبع من داخلك، من أعماق لم تطأها قدماك من قبل، أعماق لا تحمل أسماء أو خرائط، لكنها مأهولة بشعور غامض يشبه الضوء الخافت في نهاية نفق طويل، مثل فكرة: "أنا فكرة" نعم، تأملها جيداً… أنا لست سوى فكرة، كل ما أظنه صلباً حولي ليس سوى بناء هش من تصورات وتجارب، حتى ملامحي التي أراها في المرآة ليست إلا انعكاساً لصورة رسمتها فكرة ما في ذهني.

 

وجودي فكرة، لا أكثر!، ماذا يعني أن أكون موجوداً؟ أهو إحساس بالوعي؟ أم سلسلة من التفاعلات الكيميائية في الدماغ؟ أم مجرد فكرة تجسدت صدفة في جسد بشري، تبحث عن معنى لذاتها؟ ربما نحن ظلال فكرة عظيمة نسيها الكون، أو ربما نحن الفكرة نفسها التي تحاول فهم نفسها من خلالنا. الغريب أن أكثر ما نحاول تعريفه هو أكثر ما يهرب منا: هذا "الوجود" الذي يبدو مألوفاً ومبهماً في آنٍ واحد.

 

الحياة… فكرة!، فكرة قديمة بقدم الزمن، لكنها متجددة مع كل ولادة، مع كل لحظة استيقاظ من نوم عميق!، الحياة ليست ما نعيشه فقط، بل كيف نفكر فيما نعيشه. هل هي سلسلة من الأيام المكررة؟ أم تجربة فريدة لا تتكرر أبداً؟ لعل الحياة ما هي إلا فكرة معقدة تحاول إقناعنا بأنها أكثر من مجرد فكرة.

 

والموت أيضاً فكرة!، فكرة ثقيلة كأنها حجر كبير في قاع العقل، نخشى الاقتراب منها، لكننا نحملها معنا في كل مكان، ونتحدث عنها وكأنها حدث بعيد، مع أنها أقرب إلينا مما نظن!، الموت ليس النهاية كما يقال، بل هو فكرة عن النهاية، ونحن من أعطاها هذا الشكل وهذه الهيبة، ربما يكون الموت مجرد انتقال من فكرة إلى أخرى، من وعي إلى وعي آخر لا نعرف عنه شيئاً.

 

حاجتنا للأسرة… فكرة أيضاً!، فكرة تتجاوز البيولوجيا والجينات، إنها شعور بالانتماء، وبرغبة دفينة في ألا نكون وحدنا في هذا الكون الواسع!، الأسرة ليست فقط مجموعة من الأشخاص الذين تجمعهم صلة دم، بل هي فكرة عن الحماية، وعن جذور نغرسها في أرضٍ ما! كي لا نضيع في رياح العالم!، فكرة بناء أسرة جديدة بدورها رحلة معقدة بين الخوف والرجاء: خوف من فقدان الحرية، وخوف من الفشل، رجاء في الحب، وفي الاستمرارية، وفي ترك أثر يمتد بعد رحيلنا.

 

والأصدقاء؟ هم انعكاس لفكرة احتجنا لتجسيدها!، فكرة أننا لا نستطيع أن نحيا بمفردنا، فالأصدقاء هم نسخ متعددة من أفكارنا عن أنفسنا، نراهم كما نريد أن نرى أنفسنا أحياناً، وأحياناً أخرى نحبهم لأنهم مختلفون عنا. نحن لا نحب الشخص بحد ذاته فقط، بل نحب الفكرة التي يمثلها بالنسبة لنا: فكرة الدعم، أو التفاهم، أو حتى فكرة الصراع الذي يجعلنا أكثر وعياً بذواتنا.

 

أما انطباعاتنا عن الأشياء والآخرين فهي ليست أكثر من أفكار نحملها كمرآة نرى بها العالم، لكن الحقيقة أن هذه المرآة لا تعكس العالم كما هو، بل تعكسنا نحن!، نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نحن. كل حكم نصدره، وكل رأي نكوّنه، وكل شعور نختبره تجاه شيء أو شخص، هو في جوهره فكرة مغلفة بتجربة شخصية، ربما لهذا السبب تتغير أفكارنا بمرور الوقت: لأننا نحن من يتغير، ومعنا تتغير المرآة التي ننظر بها إلى العالم.

 

الأفكار ليست نوعاً واحداً ولا تأتي دائماً في صورة ثابتة!، فهي كائنات ذهنية متعددة الأشكال والطبائع!، هناك فكرة مكتملة، تأتي بكل تفاصيلها كضوء ساطع لا يحتاج إلى تفسير أو إعادة تشكيل، وكأنها كانت تنتظر لحظة ظهورها فقط!، تشعر بها وكأنها لوحة فنية قد رُسمت بالفعل، كل ما عليك هو النظر إليها بتمعن لتفهمها، ثم هناك فكرة مجردة، لمحة بسيطة، ظل شبح يمر على أطراف وعيك، تحتاج إلى عصف ذهني لتتحول من ومضة خاطفة إلى فكرة واضحة!، وهذه النوعية من الأفكار تشبه البذور الصغيرة التي تحتاج إلى صبر ورعاية حتى تزهر في النهاية.

 

وهناك أيضاً الأفكار السريعة، تلك التي تظهر فجأة! وكأنها قفزت من أعماق عقلك دون مقدمات، إنها تشبه شرارة البرق!، مجرد ظهورها يكفي لتضيء لك تفاصيل لم تكن تراها من قبل، وهذه الأفكار تدهشك، ليس لأنها عميقة بالضرورة، بل لأنها تأتي مع حقيبتها الخاصة من التفاصيل، وكأنها لم تكن تنتظر سوى إشارة للانطلاق.

 

لكن، بغض النظر عن طبيعة الفكرة أو شكلها، تظل الحقيقة واحدة!، الفكرة، إذن، ليست مجرد ومضة عابرة في الذهن، إنها لبنة أساسية في بناء كل شيء نعرفه عن أنفسنا وعن العالم، هي البداية والنهاية، والرحلة والوجهة، والسؤال والجواب، ونحن لسنا سوى مجموعة من الأفكار المتشابكة، نحاول أن نفهمها ونفهم أنفسنا من خلالها، وكلما ظننا أننا وصلنا إلى فكرة نهائية، اكتشفنا أنها مجرد بداية لفكرة أخرى، أكثر عمقاً، تنتظرنا خلف الأفق.

 

ثم هناك الأفكار التي تحمل في طياتها عبق التاريخ، فما التاريخ إلا فكرة، خُطت على الورق وحُفرت في الذاكرة. النصر فكرة، الحدود فكرة، وجواز السفر الذي نحمله بفخر أو نراه قيداً هو فكرة أيضاً!، كل شيء نؤمن به أو نرفضه، نحتفي به أو نخشاه، هو فكرة في جوهره. الجامعات التي نلتحق بها، والثقافة التي نعتنقها، وحتى التعايش مع الآخرين أو تقليدهم… كلها أفكار!، بعضها خلاقة كوميض برق في سماء صافية، وبعضها هدامة كظل لا يفارق الجدار، حتى لو زال الضوء.

 

وهنا يتبادر سؤال: كم فكرة تزور عقلنا في اليوم الواحد؟ وكم منها يستحق أن نصغي له حقاً؟ لا أملك إجابة دقيقة، لكن ما أعلمه أن بعض الأفكار لا تحتاج سوى نظرة عابرة، فيما أخرى تصرخ في وجهك لتقول: "استمع إلي!"، وهناك أفكار تحفزنا على إعادة تشكيلها، كقطعة طين بين أيدينا، نصنع منها أشكالاً جديدة في كل مرة نلمسها.

 

لكن، ماذا لو طرحت فكرة مخادعة؟ فكرة تعلم مسبقاً أنها ستثير رفض القارئ!، ماذا لو قلت مثلاً: "الحرية مجرد وهم"، أراهن أن هذه الجملة وحدها قد تثير اعتراضك، لكن أليس هذا هو جوهر الفكرة؟ أن تُشعل شرارة التفكير، حتى لو كانت تلك الشرارة هي الرفض؟ ربما الهدف من بعض الأفكار ليس إقناعك بها، بل دفعك لمعارضتها، لتجد نفسك تفكر بعمق أكبر مما لو وافقت عليها ببساطة.

 

لقد قال ألبير كامو: "كل شيء يبدأ بفكرة" لكن هل كل فكرة تستحق أن تُروى؟ ما أعلمه أن الأفكار مثل النجوم!، بعضها يلمع في السماء لتراه العيون، وبعضها يلمع في أعماق الكون حيث لا يصل الضوء!، قد لا نستطيع لملمة كل الأفكار في مقال، وقد لا يستوعب القارئ كل ما نكتبه، لكن الأهم هو الأثر!، أن يترك المقال فكرة واحدة على الأقل تظل عالقة في ذهنه، كصوت بعيد لا يتلاشى تماماً.

 

ربما لأن الفكرة ليست مجرد كلمات!، الكلمات مجرد قوالب نصوغ فيها ما نعجز عن لمسه بأيدينا، لكن الفكرة أعمق من ذلك، إنها شيء ينمو في المساحات التي لا تصلها اللغة. هي تجربة، وشعور، وموقف!، ليست فقط ما نقوله، بل ما نشعر به عندما نصمت، إنها تلك الارتعاشة غير المبررة عند تذكر موقف مرّ عليه زمن طويل، أو ذلك الانقباض المفاجئ في قلبك عند المرور بمكان يحمل ذكرى غامضة. الفكرة هي ذلك الضوء الذي لا يُرى، لكنه يسطع داخلك، يضيء زاوية لم تكن تعلم بوجودها من قبل، وهي ذلك الصوت الخافت الذي يقول لك في لحظة صمت: "أنا هنا"، صوت لا يحتاج إلى ارتفاع ليكون مسموعاً، يكفي أنه ينبع من داخلك ليكون أكثر وضوحاً من ضجيج العالم كله.

 

الفكرة ليست ضيفاً عابراً، بل مقيم دائم في غرف العقل، أحياناً تدخل كنسمة لطيفة تفتح نافذة صغيرة على عالم جديد، وأحياناً أخرى تقتحمك كعاصفة لا تمنحك فرصة للهرب!، هي ما يوقظك في منتصف الليل لتكتب ملاحظة على ورقة قريبة، أو تجعلك تحدق في نقطة بعيدة دون سبب واضح، إنها تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك فهمت شيئاً عميقاً دون أن تتمكن من شرحه بالكلمات.

 

وفي النهاية، قد لا أكون قد جمعت كل الأفكار التي زارتني أثناء كتابة هذا المقال، فالأفكار مثل الزوار!، بعضها يطرق الباب بلطف، وبعضها يدخل دون دعوة، وبعضها يمر أمامك ولا تنتبه له إلا بعد رحيله. حاولت أن أمسك بقدر منها، لكن الأفكار بطبيعتها عصية على الحصر، إنها مثل الماء: كلما حاولت إحكام قبضتك عليها، انزلقت من بين أصابعك، ومع ذلك، تركت ما يكفي منها لتقول لك: "الفكرة التي لا تطرق باب قلبك، ستظل دائماً غريبة على عقلك".

 

قبل أن أنهي هذا المقال، وهو بحد ذاته فكرة تتنفس بين السطور، وجدتني أمام سؤال محير: هل الأفكار التي تمر في أذهاننا تعود؟ أم أنها مجرد سلسلة من الخواطر تنساب كالشريط السينمائي، تمر ثم تختفي دون أثر حقيقي؟ كم أشتاق لمعرفة الأفكار التي كانت تراودني في فترة المراهقة، وقبلها، وبعدها، وفي مراحل النضج المختلفة!، ليتها تعود، ولو للحظة، حتى أمسك بها، وأعيد تفكيكها، وأستعرض تفاصيلها، أو على الأقل أحلل تلك البذور الصغيرة من العبقرية التي ربما نضجت في صمت، دون أن أدرك قيمتها حينها. كم من فكرة عابرة كانت تحمل في طياتها شرارة إلهام، ضاعت لأنني لم أكن مستعداً لاحتضانها، أو لم أمتلك الوعي الكافي لتقديرها.

 

لكن، ربما ليست العودة هي الغاية، وربما الفكرة الحقيقية تكمن في أن بعض الأفكار خُلقت لتكون عابرة، ولتترك أثرها دون أن تبقى!، وهنا، تنفتح أمامي نافذة أخرى، لأن العقل وحده لا يكفي لفهمها، فالعقل يحلل، ويفكك، ويقيس، لكنه يحتاج إلى القلب ليشعر بصدقها. الفكرة التي لا تلامس قلبك تبقى معلقة في الهواء، بلا جذور، أما حين تخترقك، وحين تجد صدى في داخلك، تصبح جزءاً منك. ليست مجرد فكرة تفكر فيها، بل فكرة تعيشها!، ربما هذا هو سر الأفكار التي تظل معنا طويلاً: أنها لم تكن يوماً مجرد كلمات، بل كانت دائماً مشاعر متنكرة في هيئة أفكار.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

قصيدة تمشي على الأرض!

  قصيدة تمشي على الأرض! ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخط...