الخميس، 27 فبراير 2025

 

ما بين النور والظل: رحلة في معاني الخير والمعرفة والجهل والشر!

 

في أعماق كل روح بشرية، يدور صراع خفي بين النور والظل، وبين الخير الذي يسعى إلى بناء عالم أكثر عدلاً، وبين الشر الذي يحاول أن يجعل الخراب وسيلة للنجاح.

 

في كل حقبة، نجد من يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الشر قد يكون أحياناً طريقاً للخير، ولكن هل يمكن للظلم أن يخلق عدلاً؟ أو للحرب أن تصنع سلاماً؟

 

الحكمة الأولى التي يجب أن نرسخها في عقولنا أن الغاية لا تبرر الوسيلة، إذ لا يمكن أن يكون هناك صلة بين الظلم والعدل، تماماً كما لا يمكن للنار أن تكون وسيلة لحفظ الحياة، إلا إذا كانت محكومة بعقل وقوانين.

 

الحرب، مهما حاول البعض تجميلها، ليست سوى فوضى تلتهم الأبرياء، والسعي للخير عبر وسائل غير أخلاقية، هو مجرد خداع للنفس، ومحاولة بائسة لتجميل القبح.

 

إن البحث عن العدل والرحمة والتعاون هو السبيل الوحيد لتحقيق الخير الحقيقي، وليس القوة، أو القمع، أو التضحية بالمبادئ لأجل نتائج آنية. قال غاندي ذات يوم: "لا يمكن للشر أن يجلب الخير، تماماً كما لا يمكن للشوك أن يُثمر عنباً".

 

قد يحاول البعض إقناع أنفسهم بأنهم يسيرون على الطريق الصحيح، حتى وهم يغرقون في الخطايا الصغيرة، متناسين أن الحقيقة لا تختفي بمجرد إغماض العينين.

 

لا يمكننا أن نخدع أنفسنا إلى ما لا نهاية، فهناك لحظة، مهما تأخرنا عنها، ستفرض علينا مواجهة الواقع. كم من شخص أقنع نفسه بأنه سعيد، وهو في الحقيقة هارب من مواجهة عيوبه؟ وكم من مجرم برر أفعاله لنفسه، حتى صدّق أنه مظلوم؟ الحقيقة تظل حقيقة، والواقع لا يتغير بمجرد تغيير زاوية النظر إليه. قال دوستويفسكي: "أسوأ الأكاذيب هي التي نرويها لأنفسنا".

 

إن كان هناك شيء يعزز الخير في المجتمعات، فهو نشر العلم والمعرفة للجميع، وليس احتكارها لقلة متعالية، فالعلم الذي يخدم الإنسان هو العلم الذي يصل إليه، لا ذاك الذي يظل حبيس النخبة، أو يُستخدم كأداة للسلطة، ومن السذاجة الاعتقاد بأن مجتمعاً جاهلاً يمكنه أن يبني مستقبلاً مزدهراً، إنما المعرفة هي الوقود الذي يحرك الأمم، وحين تكون في متناول الجميع، تصبح أداة للتحرر، وليس سلاحاً في يد الأقوياء.

 

لكن، ورغم كل ذلك، أليس من العجيب أن نجد بين الجهلاء من يتحلون بالصدق والنقاء أكثر من بعض المتعلمين؟ قد يكون الإنسان بسيطاً في تعليمه، لكنه عظيم في أخلاقه، وقد يكون عالماً في تخصصه، لكنه فقير في قيمه.

 

المعرفة مهمة، لكن الأخلاق تسبقها، فقد نجد شخصاً لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته، لكنه أكثر عدلاً وأمانة من شخص يحمل أرقى الشهادات، فالاستقامة ليست نتاج المعرفة فقط، بل تنبع من الفطرة الصافية.

 

هناك من يمتلك سرعة بديهة مذهلة، لكنه يستخدمها بطرق ملتوية، وهناك من يفهم الأمور ببطء، لكنه يمضي بثبات نحو الحق، فالفهم السريع ليس فضيلة إن لم يكن مرتبطاً بالحكمة، تماماً كما أن القوة ليست خيراً إن لم تكن محكومة بالعقل.

 

الذكاء الحاد، بلا أخلاق، يمكن أن يكون أخطر من الجهل نفسه، فالمخادع ذكي، والمحتال فطن، لكن هل يمكن أن نعتبرهم ناجحين؟ قال ألبرت أينشتاين: "العلم دون ضمير ليس سوى خراب للروح".

 

حين ننظر إلى الجهل كمرض، والعلم كعلاج، نفهم لماذا تنهض أمم حين تهتم بالعلم، وتسقط أخرى حين تهمله، فالجهل، بحد ذاته، ليس مشكلة، بل المشكلة في من يتمسك به ويعتبره فضيلة.

 

العلماء ليسوا مجرد حملة شهادات، بل هم أولئك الذين يحملون مسؤولية إصلاح المجتمعات، ونشر النور حيث يسود الظلام، إنهم أطباء يداوون العقول، وليس مجرد ناقلي معلومات. قال فرانسيس بيكون: "المعرفة قوة، لكنها تكون قوة حقيقية حين تستخدم لتحرير العقول، لا لاستعبادها".

 

في نهاية المطاف، نجد أنفسنا أمام طريقين متناقضين: طريق المعرفة والعدل، وطريق الجهل والظلم!، ولا يوجد حل وسط بين الخير والشر، ولا يمكن للشر أن يقود إلى الخير، مهما زُين بالأعذار.

 

العالم لا يحتاج إلى مزيد من الأذكياء الماكرين، ولا إلى المزيد من المتعلمين بلا ضمير، بل يحتاج إلى من يحمل العلم والأخلاق معاً، لأن أحدهما بلا الآخر ليس سوى طريق إلى الضياع.

 

جهاد غريب

فبراير 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الثالث: "أحتاجُكَ": انكسارٌ يُشرِّفُنا، وحنينٌ يُكمِلُنا!

 "أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة! الجزء الثالث:  "أحتاجُكَ": انكسارٌ يُشرِّفُنا، وحنين...