الاثنين، 30 ديسمبر 2024

صيد المواهب: فن التوظيف الهادئ!

 

صيد المواهب: فن التوظيف الهادئ!

 

تخيل شركة ناشئة صغيرة كانت تواجه صعوبة في العثور على مطوري برمجيات ذوي خبرة عالية، فبدلاً من الاعتماد على الإعلانات التقليدية، قررت الشركة التركيز على بناء علاقات قوية مع الجامعات والمؤسسات التعليمية، وقامت بتنظيم ورش عمل، ومسابقات برمجة، لجذب الطلاب الموهوبين، ووفرت لهم فرصاً للتدريب والتطوير، ونتيجة لذلك، تمكنت الشركة من بناء فريق قوي من المطورين الموهوبين، وساهمت في نموها السريع، وتحقيق نجاح كبير.

 

التوظيف الهادئ هو فن صيد اللؤلؤ في أعماق البحار، فكما أن الصياد الصبور يبحث عن اللؤلؤ الثمين بين المحار، كذلك تبحث المنشأة عن المواهب النادرة بين آلاف المتقدمين، والمنشأة التي تتبع هذا الأسلوب هي بمثابة حديقة خصبة تزرع فيها بذور النجاح، فكل موظف جديد هو بذرة تزرع بعناية، لتثمر أطيب الثمار.

 

إن التوظيف يُعد من أهم العمليات في أي منشأة، فهو الوسيلة الأساسية، لاستقطاب الكفاءات التي تُسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، ويتطلب تخطيطاً دقيقاً، لضمان توافق المرشحين مع احتياجات العمل، وثقافة المنشأة.

أما التوظيف الهادئ، فهو أسلوب يهدف إلى استقطاب الكفاءات بشكل استباقي ومنهجي، دون ضغط زمني، حيث يتم التركيز فيه على تحديد المواهب المناسبة، حتى لو لم تكن هناك حاجة فورية، مما يُتيح للمنشأة بناء فريق عمل قوي واستعداداً أفضل، لتحديات المستقبل، ويُسهم هذا الأسلوب في تجنب قرارات التوظيف العشوائية، حيث يتم اختيار الأنسب دون استعجال.

كما يساعد على تقليل التكلفة على المدى البعيد من خلال الحد من معدل دوران الموظفين، والإنفاق على الإعلانات، وإعادة التوظيف، إضافة إلى ذلك، يُعزز التوظيف الهادئ من سمعة المنشأة، ويجعلها خياراً مفضلاً للكفاءات، ويضمن استدامة الإنتاجية من خلال توافر الكفاءات اللازمة، لتغطية أي نقص مستقبلي.

 

التوظيف الهادئ ليس مجرد عملية، بل رؤية استراتيجية تُحقق استدامة المنشأة، وتميّزها في سوق العمل، ومن خلال تطبيق هذا النهج، فإن المنشأة لا تكتفي باختيار موظفين لمهام محددة فقط!، بل تستثمر في أفراد لديهم القدرة على النمو والتطور، مما يخلق بيئة محفزة للتعلم والتطوير المستمر! فيشعر فيها الموظفون بأنهم جزء أساسي من نجاح المنشأة، وهذا يعكس اهتمام المنشأة برأس مالها البشري، حيث يُظهر للموظفين أنهم قيمة مضافة لا تقدر بثمن، ما يعزز الولاء والانتماء، ويحركهم نحو تقديم أفضل ما لديهم.

 

ومن ناحية أخرى، التوظيف الهادئ ليس مجرد نفقات، بل هو استثمار طويل الأجل، وقد يبدو أن عملية البحث عن المواهب وتدريبهم تتطلب وقتاً وجهداً ومالاً، لكن العائد على هذا الاستثمار يكون كبيراً على المدى الطويل، فالموظفون الذين تم اختيارهم بعناية، وتدريبهم بشكل جيد، يكونون أكثر إنتاجية وإبداعاً، ويحققون نتائج أفضل للمنشأة، بالإضافة إلى ذلك، فإن الاحتفاظ بالمواهب المتميزة يقلل من تكاليف التوظيف والتدريب المستمرة، وبالتالي، فإن التوظيف الهادئ يساهم في تحقيق استدامة المنشأة، ونموها على المدى الطويل.

 

يقول وارن بافيت، فإن الاستثمار في الموارد البشرية هو الاستثمار الأفضل على الإطلاق، فالموظفون هم المحرك الرئيسي لأي منظمة، وهم الذين يحددون نجاحها أو فشلها.

التوظيف الهادئ يعكس هذا المفهوم، حيث يركز على اختيار الأفراد المناسبين الذين يمكنهم المساهمة في تحقيق أهداف المنشأة على المدى الطويل.

 

علاوة على ذلك، التوظيف الهادئ يعكس القيم والمبادئ التي تؤمن بها المنشأة، فعندما تختار المنشأة موظفين يشاركونها رؤيتها وقيمها، فإنها تبني ثقافة مؤسسية قوية ومتماسكة، وهذا الأسلوب يساهم في بناء هوية قوية للمنشأة، حيث يصبح الموظفون سفراء لعلامتها التجارية.

فالموظفون الذين يشعرون بالانتماء إلى المنشأة ويدركون قيمها يكونون أكثر حماساً للعمل، وأكثر ولاءً للمنشأة، وأكثر قدرة على تمثيلها بشكل إيجابي، وبالتالي، فإن التوظيف الهادئ هو أداة قوية، لبناء ثقافة مؤسسية قوية تساهم في نجاح المنشأة على المدى الطويل، وكما قال بيتر دراكر، فإن الثقافة هي القوة الأكثر استدامة في أي منظمة.

 

تشتهر شركة غوغل بعمليات التوظيف الصعبة والمبتكرة، حيث تبحث عن مواهب استثنائية قادرة على التفكير خارج الصندوق، وتعتمد الشركة على أساليب التوظيف الهادئ! للعثور على هذه المواهب النادرة، وتوفر لهم بيئة عمل محفزة تدعم النمو والتطوير المهني.

بينما تتميز شركة 3M  بتركيزها على الابتكار المستمر، وتعتبر التوظيف الهادئ جزءاً أساسياً من استراتيجيتها، لتحقيق هذا الهدف، حيث تبحث الشركة عن موظفين لديهم شغف بالعلم والاكتشاف، وتوفر لهم الموارد اللازمة، للتفكير الإبداعي وحل المشكلات المعقدة.

هذه الشركات، وغيرها الكثير أثبتت أن التوظيف الهادئ ليس مجرد نظرة نظرية، بل هو أسلوب عملي يحقق نتائج ملموسة ويعزز الاستدامة والتميز.

 

من جهة أخرى، إن التوظيف الهادئ ليس منفصلاً عن التطورات التكنولوجية، والاتجاهات الحديثة في إدارة الموارد البشرية، بل على العكس يعززها ويستفيد منها، حيث يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، لتسريع عملية البحث عن المواهب، وتقييم السير الذاتية، مما يوفر الوقت والجهد على مدراء التوظيف، كما يمكن لهذه التقنيات تحليل البيانات الكبيرة، للتنبؤ باحتياجات التوظيف المستقبلية.

بالإضافة إلى ذلك تساهم تحليلات البيانات في فهم احتياجات الأعمال بشكل أفضل، وتحديد المهارات التي يجب التركيز عليها عند التوظيف.

ومن ناحية أخرى أصبح التواصل الاجتماعي منصة أساسية، للبحث عن المواهب والتواصل معهم، إذ يمكن استخدام منصات مثل: لينكد إن، لتحديد الخبراء في مجال معين، والتواصل معهم مباشرة.

لذا فإن التوظيف الهادئ هو أسلوب مستقبلي، يتماشى مع التطورات التكنولوجية، والاتجاهات الحديثة في إدارة الموارد البشرية، مما يجعله خياراً استراتيجياً يدعم النجاح المستدام للمنشآت.

 

ويُعد التوظيف الهادئ تحولاً جذرياً عن الأساليب التقليدية التي اعتمدت على الإعلانات الواسعة والنشر المكثف للوظائف الشاغرة، حيث يتميز التوظيف الهادئ بالاستباقية والتركيز على جودة المرشحين، بدلاً من الكم، مما يتيح بناء فريق عمل متماسك، وتقليل تكاليف التوظيف، وجذب المواهب النادرة، وتحسين سمعة المنشأة.

ومع ذلك، قد يستغرق هذا الأسلوب وقتاً أطول!، ويحتاج إلى مهارات عالية في البحث عن المواهب والتواصل معهم.

في المقابل تعتمد الأساليب التقليدية على نشر الوظائف بشكل واسع، لجذب أكبر عدد ممكن من المتقدمين، مما يتيح سرعة ملء الشواغر، وتكلفة أقل في البداية، لكن قد يؤدي هذا الأسلوب إلى غرق قسم الموارد البشرية في عدد كبير من السير الذاتية غير المؤهلة، مما يجعل العثور على المواهب النادرة أكثر صعوبة.

 

التوظيف الهادئ في مختلف القطاعات ينطبق على جميع المجالات، لكن قد يواجه بعضها تحديات أكثر من غيرها، حيث تحتاج القطاعات التي تتطلب مهارات تقنية عالية إلى مواهب نادرة، مما يجعل التوظيف الهادئ استراتيجية مثالية للعثور عليها، بينما قد يكون من الصعب تطبيقه بشكل كامل في القطاعات التي تتطلب تفاعلاً مباشراً مع العملاء، إذ قد تحتاج هذه القطاعات إلى ملء الشواغر بسرعة.

 

أما بالنسبة للقطاعات الصغيرة والمتوسطة، فقد تواجه تحديات في تخصيص الموارد اللازمة، لتطبيق هذا الأسلوب، لكن رغم ذلك يمكن تجاوز هذه العقبات، من خلال توفير التدريب اللازم لمدراء التوظيف، لتطوير مهاراتهم في البحث عن المواهب، والتواصل معهم، وبناء علاقات قوية مع الجامعات والكليات والمؤسسات المهنية، لجذب الخريجين والمواهب الشابة، وكذلك باستخدام أدوات التوظيف الحديثة مثل: منصات التواصل الاجتماعي وشبكات المهنيين.

 

ختاماً، يُعتبر التوظيف الهادئ استثماراً استراتيجياً في المستقبل، حيث يساهم في بناء فريق عمل قوي ومبتكر، ومع التخطيط الجيد، والتغلب على التحديات، يمكن للمنشآت تحقيق نتائج إيجابية ومتميزة، من خلال تطبيق هذا الأسلوب.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...