الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

صناعة البطل: بين الأسطورة والإلهام والواقعية!

 

تخيّل أنك تائه في غابة مظلمة، وفجأة! يظهر أمامك شخص مجهول يمد لك يد العون، ويقودك إلى بر الأمان!، في كل حكاية، يظهر البطل عندما نكون في أمسّ الحاجة إليه، لكن هل هذا البطل موجود فعلاً، أم أنه مجرد وهم نسجته مخيلتنا؟ إجابة هذا السؤال تتجلى في فهم طبيعتنا البشرية، ورغبتنا في البحث عن الأمل والقوة.

 

إن ارتباط البشر بالأبطال يتجاوز الإعجاب السطحي، فعلماء النفس يشيرون إلى أن الأبطال يمثلون انعكاساً لما نفتقده في حياتنا مثل (الشجاعة، أو القوة، أو حتى التعويض عن نقاط الضعف الشخصية)، فعندما نرى شخصية مثل "آيرون مان" من أفلام "Marvel"، نجد توازناً بين القوة الخارقة، والضعف الإنساني، وهو ما يجعلها قريبة من قلوب شريحة واسعة من الجمهور.

 

لطالما احتلت شخصية البطل مكانة خاصة في الأدب والأساطير والسينما وحتى ثقافات الشعوب، ففي العصور القديمة، كان البطل يُصور ككائن خارق بقدرات تتجاوز البشر، مثل "أخيل" في الأساطير الإغريقية و"عنترة بن شداد" في الأدب العربي، بمرور الزمن، تطور هذا التصور، ولم يعد البطل مجرد شخصية أسطورية خارقة، بل أصبح أكثر إنسانية، يعكس طموحاتنا وأحلامنا وأحياناً مخاوفنا، بينما يتعامل مع تعقيدات الحياة اليومية.

 

لقد تطوّر مفهوم البطل بشكل كبير عبر الزمن، ففي الحضارات القديمة، كان يُجسّد صورة إلهية أو نصف إله، ورغم أن هذه الشخصيات بدت بعيدة عن الواقع، إلا أنها كانت تُستخدم لتغذية الخيال وتعزيز القيم الاجتماعية، ورغم هذا التطور، لا يزال الجمهور يجد في الأبطال الخياليين متعة خاصة، فالبطل الخيالي يجسد قدرات هائلة تتحدى الواقع، وتمنح الجمهور فرصة للهروب من ضغوط الحياة، بينما يقدم الأبطال الواقعيون خصائص مألوفة كالصبر والشجاعة في مواجهة التحديات، وهذا التناقض بين الخيال والواقع يعكس رغبة الجمهور في العثور على نموذج يلهمهم، سواء كان مستمداً من واقعهم أو متجاوزاً له.

 

ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا يستمر الجمهور في رفض الحقيقة لصالح الوهم؟ لهذا السبب نجد العديد من الكتّاب يتجنبون التفاصيل الواقعية في قصصهم، ويسعون إلى خلق أبطال أسطوريين لجذب الجمهور وضمان نجاح رواياتهم، أما الشخص الواقعي، الشفاف والصادق، حين يكتب التفاصيل كما هي، فتبدو كتاباته مملة وغير مرغوبة لدى جمهور يسعى دائماً وراء الإلهام، حتى لو كان مبالغاً فيه.

 

إذا قارنّا بين الحطب الهش والحطب القوي، نجد أن النار لا تستمر طويلاً إذا كان الوقود هشّاً، بينما يعزز الحطب القوي اشتعال النار، ويزيد من تأثيرها، وبالمثل، ينجذب الجمهور إلى الشخصيات الخيالية التي تضفي على القصة إثارة وتفاعلاً أكبر، كما أن الحطب القوي يجعل النار أكثر جمالاً ودفئاً، فإن الشخصيات المبدعة تُبنى، لتبقى في الذاكرة، تاركة أثراً عميقاً في نفوس المتابعين.

كيف يمكن تحقيق التوازن بين الخيال والواقع عند تقديم الشخصيات البطولية؟ هنا يأتي دور الكتّاب في التفكير العميق بشأن كيفية جعل الشخصيات أكثر واقعية دون أن تفقد قدرتها على الإلهام.

هل يمكن أن تكون البطولات متجذرة في العواطف الحقيقية، وتجمع في الوقت ذاته بين القوة الخارقة والأسطورة؟ للوصول إلى هذا التوازن، يحتاج الكتّاب إلى خلق شخصيات تحمل سمات إنسانية، تتعلم من أخطائها وتواجه تحديات حقيقية في حياتها، وهذه الشخصيات، التي تمزج بين الواقعية والقيم الملهمة، تمنح القصة عمقاً وتجعلها أكثر إثارة وقرباً من الجمهور.

التحدي هنا يتمثل في تقديم الحكايات بجرأة وصدق، بعيداً عن التوقعات الزائفة، لخلق قصص تمس القلوب وتبقى في الأذهان.

 

البطل الذي يواجه صراعاته الداخلية ويتعلم منها، ليكتسب القوة والنضج يصبح أكثر قرباً وواقعية، في النهاية، يصبح هذا البطل نموذجاً يُلهِم الجمهور لتحقيق النجاح رغم الصعاب، ويظل محركاً للتغيير لهم في مواجهة تحدياتهم.

التحدي الأهم يتجلى في كيفية المزج بين الأسطورة والحقيقة في تقديم الشخصيات البطولية، بينما يرغب الجمهور في شخصية تتسم بالقوة والإلهام، ويحتاجون أيضاً إلى عناصر واقعية تجعلهم يرتبطون بالبطل بشكل أعمق، ويمكن للكتّاب تحسين شخصية البطل من خلال إضافة أوجه قصور، أو تحديات بشرية حقيقية، مثل (الفشل والصراع الداخلي)، مما يضفي عمقاً ويجعل الشخصية أكثر إنسانية، واستلهام الشخصيات الواقعية التي تتغلب على التحديات، لكنها تظهر أيضاً جوانب من القوة والإلهام، يخلق توازناً بين الخيال والواقع.

 

تلعب الثقافة دوراً محورياً في تشكيل مفهوم البطل، حيث يبرز في الثقافة العربية كرمز للشجاعة والكرامة، بينما تصوّره الثقافة الغربية كبطل يسعى لتحقيق العدالة وتأكيد الذات، هذا التنوع الثقافي يضفي أبعاداً متعددة على شخصية البطل، التي لم تعد تقتصر على الشجاعة الجسدية فقط، بل تطورت لتجسد شجاعة أخلاقية وصراعات مع التحديات الاجتماعية والسياسية، ويظهر ذلك جلياً في الأدب والسينما، حيث تتجسد نماذج مختلفة من الأبطال: الأبطال الخارقون، كـ"سوبرمان"، الذين يمتلكون قوى غير بشرية، والأبطال الواقعيون، مثل "عمر المختار"، الذي يجسد رمز المقاومة والتضحية بقوة مستمدة من الإرادة والإصرار، ليعكس صورة أكثر واقعية وملهمة.

 

ويلعب النقد الأدبي أيضاً دوراً محورياً في تعميق فهمنا للشخصيات البطولية، حيث يكشف أبعادها الرمزية والأخلاقية، ويبرز تعقيداتها النفسية والاجتماعية، ومن خلال هذا النقد، نرى البطل ليس فقط كرمز سطحي للشجاعة أو القوة، بل كإنسان معقّد يحمل نقائص بشرية، ما يخلق ارتباطاً أعمق بينه وبين الجمهور. 

الجدير بالذكر هو أن النقاد ينقسمون حول تعريف البطل، فالنظرة التقليدية تعتبره رمزاً مثالياً يُلهم الناس، كما في شخصية "سوبرمان"، الذي يمثل العدالة والقوة معاً، أما النظرة الواقعية، فتفضّل الشخصيات التي تعكس التعقيد الإنساني، مثل "والتر وايت" في "Breaking Bad"، الذي يجمع بين الخير والشر، أخيراً، النظرة النفسية، بدورها، تركز على دوافع الجمهور في حب الأبطال، وتُبرز كيف يمثل هؤلاء تحقيقاً لرغباتنا المكبوتة وأحلامنا المستحيلة. 

ولمواجهة هذه التوقعات المتزايدة، بات الكتّاب اليوم يقدمون شخصيات تجمع بين الواقعية والخيال، أبطال يمتلكون صفات مميزة، لكنهم يواجهون تحديات مشابهة لما يمر به الجميع، وهذه الشخصيات تشكّل نموذجاً يوازن بين (القوة والمثابرة والتواضع)، مما يعزز ارتباط الجمهور بها.

من هنا، يأتي دور النقد الأدبي في إعادة تعريف "مفهوم البطل" ليصبح أكثر واقعية وشمولية، بعيداً عن المثالية المفرطة، مما يفتح المجال للكتّاب لابتكار شخصيات تعكس القيم الإنسانية، وتثير الحماس الذي يبحث عنه الجمهور. 

 

صناعة بطل ملهم وجذاب ليست بالأمر السهل! حيث تتطلب هذه العملية فهماً عميقاً للطبيعة البشرية والجوانب النفسية والاجتماعية كما أسلفنا سابقاً، ويظهر ذلك من خلال:

الصراع الداخلي: البطل الناجح هو الذي يخوض صراعات داخلية تعكس تعقيدات النفس البشرية! شخصية "هاملت" لشكسبير مثال على ذلك، فهو يصارع التردد والشك في اتخاذ قرارات مصيرية. 

الأبعاد الإنسانية: الشخصيات التي تحمل نقاط ضعف مثل (الخوف أو الفشل) تبدو أكثر واقعية! في فيلم "The Dark Knight"، يظهر "باتمان" كبطل مضطرب نفسياً! لكنه يواجه هذه التحديات ليصبح رمزاً للأمل. 

التحول والنمو: البطل الذي يتغير ويتطور يترك أثراً أكبر! وفي رواية "الخيميائي"، يسافر "سانتياغو" بحثاً عن حلمه، لكن رحلته تُعلمه الكثير عن الحياة والذات. 

 

بمرور الوقت، تغيّر هذا التصور، وأصبح البطل أكثر إنسانية، يواجه تحديات واقعية، ويجسد قضايا يمكن للجميع الارتباط بها، وهذا التحوّل جعل الأبطال أقرب إلى الناس، لأنهم لم يعودوا مجرد رموز أسطورية، بل أصبحوا شخصيات تُلهم بحياتها وإنجازاتها الواقعية، ما يعكس تطوراً في فهم البطولة، لتشمل الجوانب الإنسانية بجانب رموز القوة والتضحية، فالبطل يجسّد الشجاعة التي قد يفتقدها البعض، والمثالية التي يسعى إليها الكثيرون، والجمهور يجد في الأبطال نموذجاً للتغلب على المخاوف، وتحقيق الطموحات، مما يعطي القصص قيمتها النفسية ويجعلها أكثر تأثيراً وارتباطاً.

 

إن القصص التي تدور حول أبطال يتحملون ضغوط الحياة تضفي عليهم إحساساً بالقوة، وتمنحهم الأمل في مواجهة الأزمات والمحن، لهذا السبب، نجد أن حكايات الأبطال تحمل قيمة تتجاوز مجرد المتعة، وتصبح مصدر إلهام للجمهور، ولتقديم شخصية بطولية ناجحة يتطلب الجمع بين عناصر الخيال والإلهام من جهة، والواقعية والصدق من جهة أخرى، ولتحقيق هذا التوازن، يجب تجنب المثالية المطلقة، فالبطل يخطئ ويتعلم، كما يجب التركيز على النمو الشخصي، والمقصود هنا هو: كيف يتغير البطل عبر الأحداث.

 

مع تطور الأدب والسينما، أصبحت الشخصيات أكثر ارتباطاً بالواقع!، في رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، يُظهر "جان فالجان" أن البطولة يمكن أن تكون في مقاومة الظلم والسعي للخلاص، هذه النقلة جعلت الأبطال أكثر قرباً من الجمهور، حيث أصبحوا يعكسون الصراعات اليومية التي نعيشها. 

 

ما يجب أن ندركه هو أن الأبطال ليسوا دائماً من الشخصيات البارزة أو القوية! أحياناً، يأتي الإلهام من شخصيات هامشية!، في رواية "To Kill a Mockingbird"، يمثل "أتيكوس فينش" نموذجاً للبطل الذي يجسد الشجاعة الأخلاقية بهدوء وبساطة. 

حتى في السينما الحديثة، نرى أبطالاً غير تقليديين مثل الشخصيات في فيلم "Parasite"، الذين يتحولون من أفراد عاديين إلى أبطال في سردية تكشف تعقيدات الفجوات الاجتماعية. 

 

كيف نبني أبطالاً يُلهمون؟ 

يبقى السؤال الأهم: كيف نصنع أبطالاً يلامسون الواقع ويلهمون في آنٍ واحد؟ الإجابة تكمن في تقديم شخصيات تجمع بين تعقيدات الإنسان وسحر الخيال، فالبطل المثالي ليس من يمتلك قوة خارقة فحسب، بل من يستطيع أن يتغلب على صراعاته الداخلية والخارجية ليصبح رمزاً للأمل والتغيير. 

الأبطال، سواء في الأدب أو السينما، يظلون نافذة تطل على ما يمكن للبشر أن يكونوا عليه، وقصصهم ليست فقط للمتعة، بل هي دعوة للتفكير في أنفسنا، وما نطمح لتحقيقه، وكيف يمكننا أن نصبح أبطالاً في حياتنا. 

 

جهاد غريب

نوفمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...