الاثنين، 30 ديسمبر 2024

الموهبة في المنفى: موهبة مغتالة وحكاية منسية!

 

كنتُ أجلس في زاوية مقهى صغير مع ثلاثة من الأصدقاء، وقد جمعتنا ألواننا المختلفة، لكنها تشابكت حول حب الوطن وقيمته!، أحدهم مصريّ، الآخر سعوديّ، والثالث فلسطينيّ، كانت جلستنا عفوية، إلا أن حديث الوطن استحوذ على قلوبنا، وبدأ يأخذنا إلى عوالم من التأمل والأسى.

 

تحدث المصري أولاً، بابتسامة تعلو وجهه، وهو يتفاخر بما يُقدَّم في بلده للمبدعين، "في مصر، إذا أبدع كاتب أو مؤلف في عملٍ أدبي، تجد القنوات الفضائية تُسلط الضوء عليه، تبدأ شهرته من هناك، فيُفتح أمامه طريق الاستمرار، الوطن يدفع بك إلى الأمام عندما تُبدع، ويُمهّد لك الطريق لتُكمل رحلتك"، كانت كلماته تحمل تفاؤلاً عذباً، وكأنها نافذة تُطلّ على أملٍ ملوّن.

 

تدخل السعودي بعد ذلك، معقباً: "نعم، في السعودية لدينا دعمٌ قوي للمواهب، وزارة الإعلام على سبيل المثال تتكفل بطباعة الكتب للمؤلفين المحليين، وقد تشتري الوزارة خمسمئة نسخة من أي عمل جديد كمبادرة لدعم المؤلفين، مما يمنحهم دفعة للاستمرار والإبداع."

 

ثم جاء دور الفلسطيني، فتغيّرت نبرة الحوار!، نظر إلينا بعينين ملؤهما الأسى، وقال بنبرة هادئة لكنها مثقلة بالوجع: "أما نحن، فليس لدينا وطنٌ أصلاً!، فإذا أبدع أحدنا في تأليف كتاب، فلن يجد من يُكرّمه، ولا من يُسلط الضوء عليه!، ولا توجد فضائيات تحتضننا، ولا وزارة إعلام تُساندنا!، نحن كالأشجار التي تُقتلع من جذورها، فلا تُثمر ولا تزهر!، الوطن ليس مجرد حدود، بل هو الحاضنة التي تُلهم وتدفع بالمبدع ليزدهر، ونحن نفتقد تلك الحاضنة."

 

جلست مستمعاً إلى الفلسطيني، وكأنني أشاهد لوحة مأساوية تُرسم على قماش الكلمات، وعيناه، بحرٌ عميق من الحزن والشوق، وصوته كسهامٍ تصيبني في مقتل!، كيف يمكن لموهبة أن تنمو في تربة الغربة؟ وكيف يمكن لحلم أن يزهر في سجن الاحتلال؟ الوطن ليس مجرد أرض، بل هو حاضنة للإبداع، وهو الهواء الذي يتنفسه المبدع لكي يعيش.

 

أين يذهب الإبداع عندما لا يجد من يستقبله؟، سؤال تردد في داخلي وأنا أستمع لكلمات الفلسطيني، هل الموهبة حقاً بحاجة إلى وطن لتزدهر؟ بدا لي أن الإجابة تتجاوز الواقع المادي إلى معانٍ أعمق، فالإبداع هو هوية الشعوب، وهو ما يميزهم عن بعضهم البعض، لكنه أيضاً يحتاج إلى تربة خصبة لينمو، ووطن يفتح أبوابه ليحتضن أبناءه.

 

الفن هو لغة الروح، وهو قادر على تغيير العالم، لكن عندما يُقمع الفن، وعندما يُترك المبدعون وحيدين في ظلال الغربة، فإن أصواتهم تصبح مجرد صدى يتلاشى في الفراغ!، تذكرت كلمات بابلو بيكاسو: "الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية". كيف يمكن لهذا الغبار أن يتلاشى إذا كان المبدع نفسه يعيش في غبار المنفى والحرمان؟

 

عندما تحدث الفلسطيني، رأيت في عينيه خريطة لآلام شعب بأكمله!، فكلماته حفرت في أعماقي حزناً لم أكن أتوقعه، وغصّتُ بمرارة الحديث!، فكّرت في هؤلاء الفلسطينيين الذين تُغتال أحلامهم قبل أن تُولد، وكيف يعيشون دون وطن يحمل أصواتهم ويرفع رايات إنجازاتهم، وقد شعرت بعجزٍ أمام هذا الكمّ من الألم!، رأيت في صوته ارتعاشات الحنين، وفي عينيه شرارات من الغضب المكبوت!، وتذكرت الأديب الذي يخطّ بأصابعه حروفاً من نور، لكنّها تُدفن في ظلام التهميش!، وفكرت في الرسام الذي يرسم وطناً في خياله، لكنّ لوحاته لا تجد جدراناً تُعلَّق عليها!

 

الإبداع ليس حكراً على وطن دون آخر، فكما عانى الفلسطيني من غياب الوطن، هناك مبدعون في أماكن أخرى يعيشون تحت وطأة الحروب والصراعات، ففي سوريا، واليمن، أو حتى في بقاع العالم التي تمزقها النزاعات، نجد نفس القصة تتكرر!، كل موهبة غير مدعومة هي حكاية تُدفن قبل أن تُروى، وكل حلم غير محقق هو جناحٌ لا يستطيع الطيران.

 

في ختام جلستنا، غادر كلٌّ منا حاملاً مشاعره، أما أنا، فقد حملت قلماً وأمسكتُ بدفتري، لأكتب هذه السطور التي تُناشد الأوطان التي ما زالت تغيب عن أصحابها، وتُذكرهم بأنهم رغم الغياب، حاضرون بإبداعهم، وإن ظلّوا مجهولين، قد لا نملك تغيير واقعهم، لكننا نملك دعم أحلامهم، فالحلم، مهما كانت قيوده، يحمل جناحين لا يمكن لأي قوة أن تكسرهما.

 

القلم سلاح المبدع، وحروفه رصاصات تصيب جدران الصمت، وفي زمنٍ يُقمع فيه الصوت، يصبح الفن أداة المقاومة، والمبدع هو الشعلة التي تُضيء العتمة، فلنتذكر أن كل كلمة تُكتب، وكل لوحة تُرسم، هي صرخة في وجه الغياب!، وشهادة على أن الموهبة، وإن اغتيلت، لا يمكن أن تُنسى.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يضيء الأفق بعد العتمة

  حين يضيء الأفق بعد العتمة رسالة في الصبر والفرج   في زحام الأيام الثقيلة، حيثُ تتكدّس الهموم في الصدر كما تتكدّس الغيوم فوق سماءٍ ضا...