في بحر العطاء: بين الشاطئ والصخرة!
حين تقدم معروفاً، تشعر وكأنك زرعت بذرة في أرض
قد تنبت شجرة وارفة، ولكن أحياناً، تجد الأرض صخراً لا يحتضن البذور، فتتساءل: هل
أتوقف؟ هل ينتهي نهر العطاء عند أول صخرة تعترض مجراه، أم أن الخير كالماء، يواصل
مساره، ويلتف حول العقبات حتى يجد منفذه؟ إن العطاء ليس مجرد فعل مادي، بل هو
انعكاس لروح سامية ترى في البذل وسيلة للنهوض بالذات وبالآخرين.
القلب كالبستان، كلما زرعت فيه بذرة خير، ازداد
خصباً وجمالاً، فإن زرعت في قلوب الآخرين أزهاراً، فقد تتفتح بألوانها في يومٍ ما،
حتى لو بدا الآن وكأنها لن تُزهر أبداً. يقول الشاعر: "ازرع جميلاً ولو في
غير موضعه / فلن يضيع جميل أينما زُرعا"، ولكن، ماذا لو وجدت نفسك تسقي بذورك
في أرض جدباء؟ هل تستمر بالعطاء، أم تعيد النظر في اتجاهاتك؟
العطاء الحقيقي كالنهر، يجري باستمرار دون أن
يتوقف، ليسقي كل ما يحيط به، لكنه أيضاً يحتاج إلى منبعه؛ فالنهر الذي يجفف نفسه
لإرواء الآخرين ينتهي به المطاف جافاً بلا حياة!، العطاء هو فلسفة توازن بين الأخذ
والعطاء، وبين النهر ومصدره، وبين ما تمنحه وما تحتفظ به لنفسك.
إن المعروف في جوهره لا يحتاج إلى كلمة
"شكراً" ليزدهر! فهو انعكاس لطبيعتك الإيجابية، ولتربية غرست فيك حب
العطاء دون مقابل، لكن هذا لا يعني أن تكون شمعة تحترق دون أن تضيء لك الطريق
أيضاً. قال جبران خليل جبران: "لا قيمة لعطائك إذا لم يكن جزءاً من ذاتك."
المساعدة ليست واجباً دائماً! هي اختيار يرتبط
بقدرتك ورغبتك، وإذا وجدت أنك تمنح دون أن تجد أثراً، فإن التوقف ليس تنازلاً عن
الخير، بل هو إعادة ترتيب لأولوياتك، فالعطاء الأصيل ينبع من قوة، وليس من ضعف، ومن
كرم داخلي، وليس من شعور بالالتزام أو الحاجة إلى إثبات الذات.
هل العطاء بلا حدود هو ما يجعلنا إنسانيين، أم أن
التوقف أحياناً هو جزء من احترامنا لأنفسنا؟ إن الإجابة تكمن في قدرتنا على
التوازن بين احتياجاتنا الشخصية واحتياجات منْ حولنا، وكما أن شجرة الكرم لا تعطي
ثمارها بلا نهاية دون أن تُسقى، فإن النفس أيضاً تحتاج إلى رعاية.
في بحر العطاء، تجد نفسك تبحر بين الشاطئ
والصخرة، وبين الرغبة في إرواء الآخرين والخوف من الجفاف، فتسأل نفسك: ما هو
الدافع الحقيقي وراء عطائي؟ هل هو الواجب، أم الرغبة، أم كلاهما؟ وكيف أميز بين
العطاء الذي ينبع من القلب، والعطاء الذي يُفرض عليَّ؟ الإجابة تكمن في مدى شعورك
بالسلام الداخلي حين تعطي.
"العطاء
كالماء، يروي العطش ويحيي الأرض، لكن إذا أسرفنا في العطاء، قد يجف منبعه"، إنها
حكمة تدعونا إلى التفكير في معنى الكرم الحقيقي، فالكرم ليس أن تُعطي بلا حساب، بل
أن تعرف متى وكيف وأين تُعطي، وكما أن النهر لا يسقي الصحراء بأكملها، بل يختار
مساره بعناية، فإن العطاء يحتاج إلى توجيه ووعي.
إن أعظم كنز هو قلب مليء بالحب والعطاء، فبه
نرتقي، ونرتقي بالآخرين، لكن هذا القلب أيضاً يحتاج إلى حماية من الاستنزاف!، كن
كريماً دون أن تهدر نفسك، ومتواضعاً دون أن تسامح في احترامك لذاتك. قال المهاتما
غاندي: "أفضل طريقة لتجد نفسك هي أن تضيع نفسك في خدمة الآخرين"، ربما،
ولكن لا تنسَ أن تجد نفسك أولاً، لأن نفسك هي منبع عطائك.
في النهاية، العطاء فن لا يتقنه الجميع، فهو
يحتاج إلى قلب طاهر ونفس كريمة وعقل واعٍ، فلتكن حياتنا شاهداً على عطائنا، وليكن
عطاؤنا نوراً يضيء دروب الآخرين، دون أن نطفئ وهج أرواحنا في الطريق، فالعطاء هو
لغة الإنسانية، لكن الحفاظ على التوازن هو ما يجعل هذه اللغة تُقرأ بفهم ووعي، ففي
بحر العطاء، لنتعلم كيف نكون نهراً يروي ولا يجف، وشجرةً تُثمر دون أن تذبل، ونوراً
يهدي دون أن يخبو.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق