وسائل
التواصل الاجتماعي: ساحة للرأي أم ساحة للصراع؟
هل
يحق لصاحب العمل أن يتحكم بما نفكر به ونكتبه على وسائل التواصل الاجتماعي؟
سؤال
يثير الفضول والجدل في آن واحد، خاصةً مع التحول الكبير في دور وسائل التواصل
الاجتماعي، التي أصبحت مساحة عامة يُعبّر فيها الأفراد عن آرائهم بحرية، متجاوزةً
حدود الحياة الشخصية إلى المهنية أحياناً، وبينما يحتفظ الموظفون بحقوقهم كأفراد
للتعبير عن أنفسهم، تزداد تعقيد العلاقة عندما يجد الموظف نفسه تحت رقابة صاحب
العمل الذي يسعى لحماية سمعة شركته، هذه العلاقة المتشابكة تتطلب توازناً دقيقاً
يراعي حق الأفراد في حرية التعبير، وفي الوقت ذاته يحمي مصالح الشركات من التأثير
السلبي، ما يدفع إلى ضرورة دراسة القوانين المنظمة، وتحليل العواقب النفسية
والاجتماعية لهذه الإشكالية.
في
البداية، لا يمكن إغفال أن حرية التعبير حق أصيل من حقوق الإنسان، وهي ليست مجرد
امتياز اجتماعي، بل ركيزة أساسية لبناء مجتمعات صحية وديمقراطية، هذه الحرية تتيح
للأفراد مشاركة آرائهم وأفكارهم دون خوف أو قيود، ما دامت لا تنتهك حقوق الآخرين
أو القوانين، وبالنسبة للموظفين، فإن هذا الحق يمتد إلى خارج حدود مكان العمل،
ويتيح لهم التعبير عن آرائهم الشخصية، ومناقشة القضايا العامة دون أن يخشوا ردود
أفعال سلبية من أصحاب العمل.
ومع
ذلك، فإن لهذه الحرية حدوداً واضحة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنشورات الموظفين
التي قد تؤثر على سمعة الشركة أو تتعارض مع مصالحها، فالتدخل هنا يأتي غالباً
بدافع حماية سمعة الشركة، حيث قد ينشر الموظف آراء أو تعليقات يراها الجمهور
انعكاساً لقيم الشركة نفسها، مما قد يؤدي إلى سوء فهم أو تشويه سمعتها، وهناك أيضاً
مخاوف من تسريب معلومات حساسة أو سرية، إما عن غير قصد أو بشكل متعمد، وهو ما قد
يلحق أضراراً مباشرة بالشركة، إضافةً إلى ذلك، قد يرى أصحاب العمل أن منشورات
الموظفين المثيرة للجدل قد تزعج العملاء أو الشركاء، وتخلق صورة سلبية عن الشركة.
على
الرغم من ذلك، فإن التدخل المفرط في حياة الموظفين قد يضر أكثر مما ينفع، وعندما
يشعر الموظف أنه مراقب أو معرض للعقاب بسبب آرائه الشخصية، فإن ذلك يؤدي إلى تزعزع
الثقة بينه وبين صاحب العمل، مما يضعف الولاء ويضر بروح الفريق، كما أن الخوف من
التعبير عن الأفكار بحرية يمكن أن يقيد الإبداع، ليس فقط في الحياة الشخصية، ولكن
أيضاً في بيئة العمل، حيث يصبح الموظفون أقل قدرة على الابتكار، إضافةً إلى ذلك،
فإن الرقابة الشديدة قد تؤدي إلى خلق بيئة عمل مشحونة بالتوتر والخوف، مما يؤثر
على الإنتاجية، ويزيد من الضغوط النفسية على الموظفين.
ورغم
هذه العواقب، فإن المسؤولية ليست أحادية الجانب، إذ يجب على الموظفين أن يتحلوا
بالوعي والمسؤولية عند النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مع تفهمهم أن منشوراتهم
قد تُفسر بشكل خاطئ، أو تُستغل للإضرار بالشركة، ومن الضروري تجنب نشر أي محتوى قد
يضر بسمعة الشركة، أو يكشف عن معلومات سرية، أو يستخدم لغة غير مهنية، والالتزام
بهذه الحدود يعزز الثقة بين الموظف وصاحب العمل، ويضمن علاقة مهنية صحية.
القوانين
والتشريعات تلعب دوراً حاسماً في تحديد حدود العلاقة بين حرية الموظفين ومصالح
أصحاب العمل، وفي دول مثل الولايات المتحدة، تحمي قوانين مثل "National
Labor Relations Act" حق
الموظفين في مناقشة ظروف العمل، حتى على منصات التواصل الاجتماعي، أما في أوروبا،
توفر "اللائحة
العامة لحماية البيانات (GDPR)" حماية
قوية تمنع التدخل المفرط في الحياة الرقمية للأفراد، ومع ذلك، في بعض الدول
الأخرى، قد تكون هذه الحماية أقل وضوحاً، مما يضع الموظفين في موقف أكثر هشاشة.
الأمثلة
الواقعية تسلط الضوء على كيفية تعامل الشركات مع هذه القضايا بطرق مختلفة، وعلى
سبيل المثال، في عام 2013، قامت شركة "Barilla" بفصل
موظف بسبب تغريدة اعتبرت مخالفة لقيم الشركة، ما أثار انتقادات واسعة، وعلى النقيض
من ذلك، تبنت شركة "Netflix" نهجاً
أكثر حكمة عندما واجه أحد موظفيها انتقادات بسبب منشورات تتعلق بسياسات الشركة، إذ
قررت معالجة الأمر داخلياً بالحوار بدلاً من الفصل، مما عزز الثقة بين الإدارة
والموظفين.
التدخل
في حرية الموظف لا يقتصر على الجانب القانوني، بل له تأثير نفسي عميق، كما يقول سايمون
سينك: "البيئة التي يخشى فيها الناس التعبير عن آرائهم لا تنتج إلا الخوف
والركود".
الموظف
الذي يشعر بالتهديد يفقد الثقة بنفسه وبمكان عمله، ويصبح أقل حماساً وإنتاجية، فهذا
الخوف قد يؤدي إلى توتر دائم يؤثر سلباً على الصحة النفسية، ويخلق جواً سلبياً في
مكان العمل.
مع
ظهور منصات تواصل اجتماعي جديدة، مثل "TikTok" و"Threads"، تواجه الشركات تحديات إضافية في كيفية
التعامل مع المحتوى الرقمي، خاصة أن هذه المنصات توفر أساليب تعبير أكثر مرونة
وانتشاراً، وفي المستقبل، قد تزداد صعوبة التحكم في المحتوى وربطه بهوية الشركة،
مما يتطلب سياسات مرنة وشاملة تأخذ في الحسبان التطورات السريعة في المشهد الرقمي.
الحلول
تتطلب توازناً بين حقوق الموظفين ومصالح الشركات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع
سياسات واضحة تحدد ما هو مقبول وغير مقبول بطريقة شفافة لا تقيد الحرية الشخصية،
كما يجب تنظيم برامج تدريبية لتوعية الموظفين بأهمية المسؤولية الرقمية، وتشجيع
الحوار البناء بين الإدارة والموظفين لمناقشة القضايا بروح من التفاهم والاحترام،
وكما يقول جوش بيرسن، خبير الموارد البشرية: "الثقة المتبادلة هي أساس
كل علاقة عمل ناجحة، والشركات التي تستثمر في بناء هذه الثقة تحصد ولاء الموظفين
وإبداعهم".
في
الختام، فإن حرية التعبير ليست رفاهية، بل حق إنساني لا غنى عنه، حتى في بيئة
العمل، لكنها في الوقت ذاته ليست مطلقة، إذ يجب أن تراعي الحدود التي تحمي الجميع،
بدءاً من الفرد وحتى الشركة، وإذا استطاعت الشركات تحقيق هذا التوازن، فإنها
ستتمكن من بناء بيئة عمل مزدهرة تدعم الحقوق الفردية وتضمن استمرارية النجاح
المؤسسي.
جهاد
غريب
نوفمبر
2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق