الأب: النور في ظلمات المقارنة!
يجلس الأب في زاوية الغرفة، متأملاً
أحلاماً نسجها لابنه منذ نعومة أظفاره، تلك الأحلام التي تتأرجح بين الواقع
والطموح، وفي الجهة الأخرى، تتوهج شاشة التلفاز كنافذة لعالم غريب، تقدم بريقاً
زائفاً يعكس شخصيات مثالية مبهرة عن الأب، لكنها بلا جذور، وهذه الشاشة، بوهجها
الخادع، أصبحت تأخذ الأبناء إلى عوالم المقارنات الوهمية، حيث يقف الأب في مواجهة
أبطال مثاليين لا يتعبون، ولا يخطئون، فيُساء فهم حقيقته الإنسانية.
الأب ليس مجرد صورة عابرة في شاشة، بل
هو ذلك النور الثابت في عالم متقلب، وهو المرآة الحقيقية التي تعكس للابن صورة
نفسه بأخطائها، وإنجازاتها، إنه الشجرة الراسخة التي تظلل الأبناء بظلها في أيام
الحر، وتمنحهم الثمار في مواسم العطاء!، كيف يمكن لتلك الشخصيات المصطنعة على
الشاشة الزرقاء، التي لا تحمل سوى أدوار مؤقتة، أن تنافس ذلك الكف المليء بالندوب
الناتجة عن التضحية والعطاء؟
في معادلة الأبوة، لا يمكن أن نغفل
دور الأم، فهي النبع الذي يروي العائلة بالحب والصبر، وهي التي تُكمل الصورة بجانب
الأب، فدورها لا يقتصر فقط!، على تربية الأبناء، بل هي شريكة الأب في بناء جيلٍ
يميز بين الحقيقة والزيف، وبالتعاون بين الأم والأب، يمكن أن نخلق مناخاً عائلياً
متوازناً يُدرك فيه الأبناء أن الكمال ليس غاية، بل الرحلة نحو تحسين الذات هي
الأهم.
لكن هذا العالم المصطنع يترك بصماته
على الأبناء، فحين تسيطر المقارنات الوهمية، يصبح الابن سجيناً للشعور بالنقص،
وفريسة لفقدان الثقة بالنفس، ويتسرب إلى قلبه إحساس دائم بعدم الرضا، ليبدأ في
السعي وراء سراب الكمال، غير مدرك أن هذا الكمال هو وهم!، لا يمكن إدراكه، فالأبناء
الذين يعيشون في هذا الوهم يفقدون قدرتهم على تقدير ما بين أيديهم، وينسون أن الأب
الحقيقي هو الذي يزرع الأمل في نفوسهم، لا الذي يتظاهر بالكمال، وهو ليس صورة في
شاشة، بل هو كفٌّ أصيلة حملت على عاتقها سنوات من العناء، وصدرٌ واسع كان مأوى
لضعف الابن وخوفه!
ولحماية الأبناء من هذه المتاهة،
علينا أن نفتح نوافذ الحوار الصادق معهم، فالحوار الذي يُظهر لهم أن الأب ليس
شخصية خيالية، بل إنسانيته تكمن في قدرته على التعلم من أخطائه، وفي حبه غير
المشروط لهم!، وقضاء وقت أطول مع الأبناء يُعتبر من أهم الوسائل لكسر سطوة الشاشة،
ومشاركة الهوايات معهم، والاندماج في أنشطتهم اليومية، حيث يفتح أمامهم عيوناً
جديدة تُدرك أن الحياة ليست ما يُعرض على الشاشة، بل هي اللحظات الصغيرة التي
تُبنى بين العائلة.
نحتاج أيضاً إلى تعزيز ثقتهم بأنفسهم،
وتشجيعهم على تطوير مهاراتهم وقدراتهم، ليصبحوا أبطال قصصهم الخاصة، بدلاً من أن
يظلوا عالقين في قصص الآخرين، وأن نعلمهم أن ينظروا بعين البصيرة لا عين الصورة، وأن
الأب هو جذور حياتهم، التي تمنحهم الاستقرار والقوة للنمو، ربما لا تُرى الجذور،
لكنها الأساس الذي تستقيم عليه الشجرة، فتثمر، مهما كان وهج الشاشات ساطعاً.
في هذا السياق، لا بد من أن نطرح
سؤالاً: أين الحقيقة في عالم المرايا الزائفة؟ هل الكمال الذي نبحث عنه موجود
بالفعل، أم أنه سراب في صحراء الحياة؟ الإجابة تكمن في الحب الذي لا يقاس
بالمظاهر، بل بالتقدير والتفاهم، فالأب ليس مجرد لقب، بل عنوان للتضحية والتفاني
في العطاء، وكما يقول المثل: "الشجرة التي تظللنا لا تسأل إن كنا نحب ظلها،
بل تستمر في العطاء."
لذلك، لنُنر قلوب الأبناء بالحب
والصبر، ولنحول بوابة البلور إلى مجرد نافذة صغيرة تطل على العالم، دون أن نسمح لها
بالتغلغل إلى قلوبهم، والكمال الحقيقي ليس في الصورة المثالية التي تعرضها
الشاشات، بل في دفء الأبوة والأمومة، وفي العائلة التي تقف كقلعة تحمي أبناءها من
الرياح العاتية لعالم متقلب.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق