ألسنة الصمت: ما الذي تخفيه؟
الصمت، ذلك السلاح ذو الحدين، هو
اللحن الأخير الذي تعزفه الروح قبل أن تتحدث، والمحيط العميق الذي تتدفق إليه
أنهار الكلمات!، أحياناً يكون الصمت ملاذاً، حين تتكلم العيون بما يعجز اللسان عن
قوله، أو حين يثقل الكلام على القلب! كأنه أحمال لا تُطاق، وفي أحيان أخرى، يصبح
الصمت مساحة للتأمل، ووقتاً تستعيد فيه النفس توازنها وسط صخب العالم.
لكن الصمت ليس دائماً حكمة!، ماذا عن
الصمت الذي ينخر العلاقات بين الأحبة والأصدقاء؟ والصمت الذي ينشأ عن خوف، أو جهل،
أو حتى كبرياء؟ إنه الخطر الكبير الذي يزرع بذور الجفاء، ويدفن الكلمات التي قد
تُنقذ موقفاً أو تُصلح شرخاً، فالصمت هنا لا يكون حلاً، بل يتحول إلى قيد يكمم
الحقيقة، ويترك القلوب عطشى لما لم يُقال.
الصمت في حضرة الروح هو لحظة التجرد
من كل أقنعة العالم، إنه الفراغ الذي يملؤه الإبداع، والحديقة التي تنمو فيها
الأفكار، وكما قال جلال الدين الرومي: "في السكون تنكشف أسرار الأرواح"،
فالصمت هو اللغة التي تتحدث بها النفس حين يعجز الكلام عن التعبير، ومع ذلك، كم من
قلوب قد جفت بسبب الصمت!، وكم من علاقات قد تهدمت تحت وطأة الصمت الذي أتى في غير
مكانه.
إن الصمت يشبه القطيفة السوداء التي
تلفنا في ليالينا، دافئة ومخيفة في آن واحد!، أحياناً، في الصمت تسمع صوت قلبك
بوضوح، ويخفق وكأنه يردد أسراراً لا يفهمها إلا هو، لكن السؤال هنا: هل الصمت
دائماً قوة؟ أليس الصمت أحياناً هو القناع الذي نخفي وراءه ضعفنا؟ أم أنه الدرع
الذي نحمي به أنفسنا من سهام الكلام الجارح؟
في العلاقات الإنسانية، الصمت قد يكون
أداة لبناء الثقة أو لهدمها، وحين يُستخدم كوسيلة للتعبير عن الاحترام أو التأمل،
فإنه يزرع الراحة، أما حين يتحول إلى وسيلة للتلاعب، أو العقاب الصامت، فإنه يصبح
سلاحاً مؤلماً!، الحوار هو المفتاح لبناء علاقات قوية ومستدامة، حيث الكلمة
الصادقة تعيد بناء ما هدمه الصمت الجاف.
وفي الأدب والفن، الصمت له وقع خاص،
إنه الأداة التي يستخدمها الكتّاب والشعراء، لرسم لحظات التأمل أو التوتر، وفي
المسرح، تُحدث لحظات الصمت أحياناً تأثيراً أكبر من الكلام، حيث تتيح للمشاهد أن
يغوص في أعماق الشخصيات، وفي الروايات، يكون الصمت هو الفضاء الذي تهمس فيه
الشخصيات بما لا يُقال.
أما في الثقافات المختلفة، فإن الصمت
يحمل معاني متنوعة، ففي الثقافات الشرقية، يُعتبر الصمت فضيلة وحكمة، ودلالة على
التواضع والتأمل، أما في الثقافات الغربية، فالصمت قد يُفهم على أنه نوع من
الانعزال أو الغموض، وفي كلتا الحالتين، يظل الصمت لغة عالمية يفهمها الجميع.
في عصرنا الرقمي، أصبح الصمت عملة
نادرة، ووسط صخب وسائل التواصل الاجتماعي، وتدفق الصور والفيديوهات، نفقد أحياناً
قيمة الكلمة المكتوبة، وقوة الصمت المدروس، لقد أصبحنا نملأ فراغنا بالكلمات
والصور، غير مدركين أن الصمت قد يكون أبلغ تعبير عن الذات.
الصمت هو القوة التي تتحكم في العالم
حين يُستخدم بحكمة، وهو الهبة التي تتيح للنفس أن تكتشف حقيقتها، وفي التوازن بين
الصمت والكلام، تكمن سعادتنا!، ففي الوقت الذي تكون فيه الكلمات فضة، يبقى الصمت
الذهب الذي يضيء دروب الحكمة، وكما قال أحد الحكماء: "في الصمت تجد الروح
ملاذها، وفي الكلام تجد الحقيقة ضياعها."
اختر متى تصمت ومتى تتحدث، ففي القرار
تكمن القوة، وفي الحكمة نور يلهم الآخرين، ليصبح الصمت أحياناً صديقك الأوفى،
وأحياناً أخرى بوابتك للحياة الحقيقية.
جهاد
غريب
ديسمبر
2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق