أضواء الكاميرا
والقلوب: رحلة المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي!
تُعتبر مواقع التواصل الاجتماعي مرآة
تعكس انعكاسات روحنا، ففيها نرسم لوحات بألوان أحلامنا، وننحت تماثيل من طين
إنجازاتنا، ولكن، كما أن المرآة تعكس الصورة كما هي، فإنها قد تكبر العيوب وتصغّر
المزايا.
ومن هذا المنطلق، فإن وسائل التواصل
الاجتماعي بالفعل! أصبحت مرآة تعكس حياة الناس وتفكيرهم، وأداة يستخدمها البعض
لمشاركة أفكارهم وإنجازاتهم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل من المناسب أن نشارك
الطموحات والأهداف الشخصية؟ وما هي الآثار المترتبة على هذه المشاركة؟
قد تكون مشاركة الإنجازات مصدر إلهام
للآخرين، وتفتح الأبواب أمام النقاشات الإيجابية، وتشجع على تبادل الأفكار، كما
أنها توثق مسيرة الشخص، ليعود إليها، ويستشعر حجم التطور الذي حققه.
في المقابل، الإفراط في عرض الإنجازات
قد يثير الحسد، أو النقد غير المبرر من البعض، كما أن الإفصاح عن الأهداف قبل
تحقيقها! قد يضع الشخص تحت ضغط مجتمعي!، أو يُضعف الحافز لتحقيقها، حيث يكتفي
أحياناً، بالتصفيق المُبكر!
وعلى الرغم من أن مشاركة الإنجازات
تفتح آفاقاً جديدة للتواصل والتبادل، إلا أننا نجد أنفسنا غالباً نتعامل مع وسائل
التواصل الاجتماعي كمكان لعرض صورة مثالية لأنفسنا، وهذا التناقض بين الرغبة في
المشاركة، والخوف من الحكم! يسلط الضوء على الأبعاد النفسية المعقدة التي نمر بها
في هذا العالم الرقمي.
قد تشبه وسائل التواصل الاجتماعي خشبة
المسرح، حيث نقف تحت الأضواء نعرض جزءاً من أرواحنا!، نرسم ابتسامة وننتظر التصفيق،
إنها مرآة تعكس أفكارنا وطموحاتنا، لكنها في الوقت نفسه تكشف عما نخفيه أحياناً من
قلق وتردد.
فحين نشارك إنجازاتنا، نشعر برضا
داخلي ينبع من مصادقة الآخرين لنا، ومن إعجابٍ يثبّت أقدامنا على أرض الإنجاز، أو
تعليق إيجابي يهمس لنا: "أنت على الطريق الصحيح"، لكن خلف هذا الرضا،
يكمن أحياناً خوف من ألا يرقى القادم إلى التوقعات التي صنعها هذا الإعجاب.
أما المصادقة الاجتماعية فهي سيف ذو
حدين!، لأنها قادرة على أن تمنحنا شعوراً بالإنجاز، وتدفعنا إلى المزيد، لكنها قد
تجعلنا أسرى لهذا التصفيق!، وعلى النقيض، إذا واجهنا نقداً أو تجاهلاً، قد نجد
أنفسنا نتساءل: هل كان إنجازي غير كافٍ؟ هل ما قدمته لا يستحق؟
وهنا تظهر أهمية التوازن النفسي! بأن
ندرك أن قيمتنا لا تحددها أزرار الإعجاب، ولا تعليقات الآخرين، فالإنجاز الحقيقي
هو أن تكون أفضل نسخة من نفسك، وليس مجرد صورة لافتة في عيون الآخرين.
إن الرغبة في الحصول على إعجاب
الآخرين، وإن كانت طبيعية، قد تعيق نمونا الشخصي! إذا جعلتنا نركز على الصورة التي
نقدمها للآخرين، بدلاً من تطوير مهاراتنا وقدراتنا، وهذا التحدي يدفعنا إلى مواجهة
خوفنا من الفشل!، والعمل على تحقيق أهدافنا الشخصية بشكل مستقل.
حين نعلن أهدافنا على الملأ، نشعر
بنشوة البداية، لكن هذه النشوة قد تتحول إلى قلق من الفشل!، ماذا لو لم ننجح؟ ماذا
لو أصبحنا موضوعاً للتعليقات السلبية؟ هذا الخوف طبيعي، لكن تجاوزه يتطلب شجاعة
داخلية، فالنجاح ليس طريقاً مستقيماً، والفشل ليس نهاية الحكاية، بل هو فصل من
فصولها.
في عالم مواقع التواصل، نقف أمام
المرآة، لا لنرى أنفسنا فقط، بل لنقارنها بما يعرضه الآخرون!، تلك المقارنات
المستمرة قد تكون مرهقة!، فتُشعرنا أن ما لدينا أقل، رغم أنه ربما يكون أكثر مما
نحتاج، فلا تقارن نجاحك بنجاح الآخرين، لأن السباق الوحيد الذي يهم هو سباقك مع
نفسك.
إن مشاركة الإنجازات ليست مجرد فعل
عابر، بل هي جزء من بناء هويتنا الرقمية، فكل منشور، وكل صورة تضيف لبنة إلى هذه
الهوية، وتصوغ كيف يرانا الآخرون، وكيف ننظر نحن إلى أنفسنا!
أحياناً، تصبح هذه الهوية وسيلة
لتعزيز العلاقات الاجتماعية، لتوطيد صلات الحب والاحترام، لكن أحياناً أخرى، قد
تخلق فجوة أو تسبب سوء فهم.
وفي ذات السياق، يتضح لنا أن تحقيق
التوازن بين الرغبة في المشاركة، والحاجة إلى الخصوصية هو أمر بالغ الأهمية!،
لبناء هوية رقمية إيجابية تعكس قيمنا، وتساهم في بناء علاقات صحية، لذا من الضروري
اختيار ما نشاركه بعناية، بحيث يحقق التوازن بين الخصوصية والشهرة، فليس كل إنجاز
يحتاج إلى الصراخ به، بل قد يكون الاحتفال به بصمت أكثر عمقاً وأصالة.
إن اختيار المشاركات التي تضيف قيمة
للآخرين، سواء كانت تجارب شخصية، أو أفكار ملهمة، يساعدنا في بناء هوية رقمية
إيجابية، وفي الوقت نفسه، علينا الحفاظ على جزء من عالمنا الخاص، حيث نختبر وننمو
دون ضغوط المصادقة الاجتماعية المستمرة.
ومن الجانب الأخلاقي، يجب أن نتذكر أن
الإنجاز لا يتحقق في فراغ!، فوراء كل نجاح أيادٍ ساعدت، وأرواح دعمت، والاعتراف
بدور الآخرين في إنجازاتنا ليس مجرد تواضع، بل هو تعبير عن امتنان حقيقي، أما التفاخر
الزائد فقد يبعد الناس عنا، بينما التواضع يقربنا إليهم.
إن إدراكنا لمسؤوليتنا تجاه الآخرين،
الذي يتجلى في الاعتراف بدورهم في نجاحنا، يدفعنا إلى استخدام منصات التواصل
الاجتماعي كوسيلة لتوسيع نطاق هذا التأثير، ليس فقط على مستوى العلاقات الشخصية،
بل على مستوى المجتمع ككل، مما يجعلنا شركاء في بناء مستقبل أفضل للجميع.
مواقع التواصل ليست مجرد منصات لعرض
الذات، بل يمكن أن تكون أدوات مؤثرة للتغيير الإيجابي، فنشر قضية مجتمعية، أو
تسليط الضوء على مبادرة إيجابية ما هو إلا استثمار في مستقبلنا ومستقبل المجتمع، فكل
مشاركة ننشرها، سواء كانت تتعلق بإنجازاتنا الشخصية، أو بالقضايا التي نهتم بها،
هي لبنة في بناء سمعتنا الرقمية، التي تؤثر على كيفية رؤيتنا من قبل الآخرين!،
وعلى فرصنا المستقبلية.
تذكر أن الحياة هي كتاب، وكل صفحة
جديدة هي فرصة لكتابة قصة جديدة، ومواقع التواصل هي تلك الصفحات التي نملأها
بمشاعرنا وأفكارنا وإنجازاتنا، وهي أيضاً نافذة تطل على روحنا، لكننا وحدنا من
يقرر ما الذي يستحق أن يظهر من خلالها.
إن النجاح الحقيقي ليس في عدد القلوب
التي نحصدها، بل في الحب الذي نشعر به لأنفسنا عندما ننظر إلى تلك النافذة.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق