المثالية: وهم الكمال
وجمال النقص!
منذ القدم، سحر الإنسان مفهوم الكمال، وسعى جاهداً
لتحقيقه في كل جوانب حياته، ولكن هل الكمال هو الهدف الحقيقي؟، أم أنه مجرد وهم نسعى
إليه دون أن ندرك أن الجمال الحقيقي يكمن في تنوعنا وعفويتنا؟ لماذا نختبئ خلف أقنعة
الكمال، وننسى أننا بشر نتأثر ونخطئ؟
السجية نورٌ لا يُطفئه رياح الأقنعة، ولا تُشوهه الظلال!،
فلماذا يجري الناس خلف قناع الكمال؟ أين الصدق والجمال؟ ولماذا لا يبقى المرء على طبيعته،
حراً كنهرٍ ينساب، يعانق الحصى دون تكلّف، ويغني للضفاف بحرية؟
لطالما كانت البساطة والعفوية مفتاح القلوب الصادقة،
أليس سقراط، الفيلسوف العتيق، قد اشتهر بحياته البسيطة وزهده عن المظاهر، مقدماً للعالم
دروساً عن قيمة النفس فوق قناع الكمال؟، أما الشاعر جلال الدين الرومي، فقد علّمنا
أن العيوب هي ما يجعلنا بشريين، وأن الجمال في تقبل ذواتنا كما نحن.
في حياتنا اليومية، نجد أمثلة كثيرة تُظهر كيف يمكن
للسعي وراء الكمال أن يُثقل كاهل الأفراد!، ففي بيئة العمل، على سبيل المثال، يحاول
الموظفون تقديم أفضل صورة ممكنة خوفاً من الانتقاد، مما يزيد من الضغط والتوتر، وفي
العلاقات الاجتماعية، نجد من يسعى لإرضاء الجميع حتى يفقد ذاته، مغموراً في محاولة
نيل إعجاب الآخرين.
ينبع السعي وراء الكمال غالباً من أسباب نفسية عميقة،
وقد يكون الخوف من الفشل هو المحرك الأساسي، حيث يخشى الأفراد أن يُنظر إليهم على أنهم
ضعفاء، كذلك، فإن الرغبة في الحصول على إعجاب الآخرين، أو البحث عن هوية ثابتة! تُدفعهم
نحو معايير غير واقعية.
لكن هذا السعي المستمر ليس بلا ثمن، ويؤدي إلى آثار
سلبية على الصحة النفسية، مثل: الاكتئاب، والقلق، وانخفاض احترام الذات، فالضغط لتحقيق
معايير مثالية، يُشعر الإنسان بعدم الرضا الدائم عن نفسه، مما يعزز الشعور بالنقص والتوتر.
تختلف معايير المثالية باختلاف الثقافات، ففي بعض
الثقافات الغربية، يتم التركيز على الإنجاز الفردي، والتفوق الشخصي، مما يعزز السعي
نحو الكمال، أما في بعض الثقافات الشرقية، فقد يكون الكمال مرتبطاً بالانسجام الاجتماعي،
والعلاقات الجماعية، وهذه الاختلافات تسلط الضوء على دور البيئة الاجتماعية في تشكيل
مفهوم المثالية.
إن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من الضغط لتحقيق
الكمال، إذ يسعى الكثيرون لعرض حياة مثالية عبر الصور، والمشاركات، مما يجعل المقارنة
أمراً لا مفر منه، وهذه المقارنات تُضخم شعور النقص!، وتبعد الإنسان عن طبيعته.
وللتخفيف من عبء المثالية، يمكن اتباع بعض الخطوات
العملية التي تشكل سلسلة متصلة من التغيير والتحسين، حيث يساعد التأمل على تهدئة العقل
وقبول الذات، مما يخلق مساحة للسلام الداخلي، وتدوين الأفكار والمشاعر يومياً، يُمكن
الأفراد من فهم أنفسهم بشكل أعمق، ويساعدهم على تتبع تقدمهم في التخلي عن الكمال،
علاوة على ذلك، التحدث مع الأصدقاء، أو الانخراط في جلسات معالج نفسي! يُقدم دعماً
عاطفياً، ويُخفف من الضغوط، إضافة إلى ذلك، تحويل التركيز من العيوب إلى النقاط الإيجابية
في الذات، والحياة اليومية يُسهم في بناء الثقة بالنفس، ومن المهم، تعلم قبول الإنجازات
الصغيرة، وتقدير الجهود، بدلاً من التطلع دائماً إلى المستحيل، والأهم هو الامتناع
عن مقارنة الذات بالآخرين، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعزز الشعور بالرضا
الداخلي، والتركيز على ما تملكه بالفعل، بدلاً من التفكير فيما ينقصك! يساعد في خلق
شعور بالرضا.
أخيراً، الاحتفال بالتقدم مهما كان صغيراً، فالاحتفاء
بكل خطوة نحو القبول بالنفس، ويساهم في ترسيخ التغيير.
عيشوا بقلوب نقية، واجعلوا من العفوية مرآة أرواحكم،
وتذكروا أن العظمة ليست في أن نكون مثاليين، بل في أن نكون نحن، دون خوف أو قناع،
واجعلوا سجيتكم زادكم، وكما قال جلال الدين الرومي: "أنت لست قطرة في المحيط،
بل المحيط في قطرة".
تعالوا نحيا ببساطة، كالصبح حين يشرق بلا تصنع، فالقلوب
الصادقة أقرب، والوجوه الواضحة أصفى من ضباب المثالية، كالشجر في الخريف، لا يخجل من
تساقط أوراقه، بل يُعلن عن تجددٍ قريب.
جهاد
غريب
ديسمبر
2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق