الخميس، 26 ديسمبر 2024

 

بين المحفظة والشاشة: فلسفة المال واختياراتنا اليومية!

الاختيار بين الشراء بالنقد "الكاش"، أو ببطاقة الشبكة ليس مجرد قرار مالي، بل هو انعكاس لعلاقة الإنسان بالمال والتخطيط، فالكاش يحمل شعوراً مباشراً بقيمة المال، حين تمسكه بين يديك، تشعر بثقله وهو يغادر جيبك، أما بطاقة الشبكة فهي أداة مرنة، أشبه بجسر غير مرئي يعبر بك إلى عالم النفقات، وتعطيك القدرة على تتبع مصروفاتك بدقة، لكنها قد تجعلك تنفق دون وعي، لأنك لا ترى المال يغادر عينيك، بل يتحول إلى أرقام تتضاءل على الشاشة.

 

وهنا يأتي السؤال الأهم: هل نشتري ما نحتاجه فعلاً، أم ما يلمع أمام أعيننا في لحظة عابرة؟

النقد قد يحد من رغباتنا، ويجبرنا على التفكير مرتين!، أو أكثر قبل الدفع، بينما البطاقة قد توسع خياراتنا، لكنها تحمل خطر الانزلاق نحو شراء ما لا يلزم! يقول أحد الفلاسفة: "ليس المال هو الذي يصنع الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع المال قيمة."

 

المال كالنهر، يجري بين أيدينا! ولا يلبث أن يزول، فهل نغرق أنفسنا في محاولة للاحتفاظ بكل قطرة منه، أم نسمح له بالجريان بحرية، مستمتعين بجماله في طريقه؟

النقد "الكاش" كالصورة الفوتوغرافية، يلتقط لحظة زمنية محددة بكل تفاصيلها، بينما البطاقة أشبه بالفيديو، تسجل سلسلة من اللحظات قد تضيع بين ثناياها بعض التفاصيل، فهل نفضل أن نعيش اللحظة الحاضرة بكل وضوح، أم نسعى إلى بناء مستقبل مبني على سلسلة من القرارات المتسرعة؟

 

الشعور بالسيطرة هو جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة!، والنقد يمنحنا هذا الشعور بامتياز، حين ندفع بأيدينا نملك القرار بشكل ملموس، وهو شعور بالثقة بالنفس والاستقلالية، كأننا نقول: "أنا المسؤول الوحيد عن قراري". في المقابل، قد تُضعف البطاقة هذا الإحساس، حيث تنقلنا إلى عالم رقمي مجرد يجعلنا أكثر عرضة للإنفاق العشوائي.

 

لكن الخوف من الفقد لا يقل أهمية، فالمال الملموس يعزز هذا الشعور، أما في حالة البطاقة، فالخوف يتحول إلى أرقام ورصيد، يبدو أقل تأثيراً! لكنه يحمل ذات العبء النفسي، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحن نخاف على المال بحد ذاته، أم على ما يمثله من أمان واستقرار؟

 

ثم هناك السعادة والإشباع، التي تحمل في طياتها تناقضاً مثيراً!، فعملية الشراء قد تجلب سعادة مؤقتة، لكنها غالباً ما تزول سريعاً بمجرد أن نحصل على ما أردناه، و"الكاش" يضفي على هذه العملية بعداً أكثر واقعية، حين ترى المال ينقص بين يديك، تدرك ثمن السعادة الفعلية، بينما البطاقة قد تمنحك شعوراً بالإشباع الفوري، لكنها تخفي عنك التكلفة الحقيقية.

 

إن التربية المالية تلعب دوراً جوهرياً في تشكيل علاقتنا بالمال!، فأولئك الذين نشأوا في بيئة تُقدر المال كأداة وليس كغاية، غالباً ما يتخذون قرارات شرائية أكثر وعياً، لكن ماذا عن الضغوط الاجتماعية؟

الموضة والمظهر يشكلان ضغطاً لا يستهان به على سلوكياتنا كمستهلكين، ونحن نعيش في ثقافة استهلاكية تُغري باستمرار، وتجعلنا نشتري ليس لأننا نحتاج، بل لأننا نريد أن نكون جزءاً من "الصورة الكاملة" التي يرسمها المجتمع.

 

هنا يكمن السؤال الفلسفي الأعمق: ما قيمة الأشياء التي نشتريها؟ هل الثمن يعكس القيمة الحقيقية، أم أن القيمة تكمن في استخدامها واستمتاعنا بها؟ كما قال أحدهم: "السعادة الحقيقية لا تكمن في امتلاك الكثير، بل في الاستمتاع بالقليل".

 

إن الوعي باللحظة يمكن أن يكون المفتاح! لاتخاذ قرارات شرائية أكثر حكمة، وعندما نسأل أنفسنا: لماذا أشتري هذا الشيء؟ هل أحتاجه حقاً؟ وهنا، نصبح أكثر قدرة على كبح رغباتنا العشوائية.

يقول حكيم آخر: "الشراء ليس نهاية المطاف، بل بداية علاقة جديدة مع الشيء الذي نقتنيه".

 

التوازن بين المادي والروحي هو الهدف الأسمى، لأن المال أداة، وليس غاية!، إن أحسنَّا استخدامه، أصبح وسيلة لتحقيق حياة كريمة ومتوازنة، وإن أهدرناه في إشباع رغبات مؤقتة، صار عبئاً يثقل كاهلنا.

فأين يكمن الحل؟ ربما في فهم أعمق لاحتياجاتنا الحقيقية، تلك التي تنبع من دواخلنا وليس مما يفرضه علينا الآخرون.

 

أخيراً، اجعل احتياجاتك الحقيقية هي المقياس، وليس وسيلة الدفع، وتذكر أن المال أمانة، بين يديك الآن!، لكنه ليس ملكك للأبد، فأحسن استخدامه، واعرف أن الثراء الحقيقي يكمن في القناعة، وأن أغنى إنسان هو من يرضى بما لديه.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...