الخميس، 26 ديسمبر 2024

 

تداعيات "حالة اللاوطنية" على الأفراد والمجتمع!

 

في كل مرة نسمع فيها عن قرار يمس حيوات الأفراد ومستقبلهم، نشعر وكأن شيئاً ما يتصدع في نسيج الإنسانية، كان الخبر أشبه برصاصة في قلب العدالة، قرار سحب جنسية مجموعة من الأشخاص عاشوا في هذا البلد أكثر من ربع قرن!، ولم يكونوا غرباء عن ترابه، بل صاروا جزءاً لا يتجزأ منه، هم من أولئك الذين منحوا وقتهم وحياتهم ليكونوا لبنات في بناء الوطن، أخلصوا وانتموا، وحين منحوا الجنسية، حملوها في قلوبهم كأمانة.

 

هؤلاء الأشخاص لم يكونوا فقط مواطنين جدداً، بل كانوا مثالاً يُحتذى به في الالتزام والانضباط، وقدّموا لوطنهم الجديد الكثير!، ولا يمكن لأحد أن ينكر أنهم عاشوا حياة المواطنين بكل تفاصيلها، حالمين بغدٍ مشترك مع هذا البلد، لقد أحبوا الوطن وأعطوه من أرواحهم قبل عرقهم، وعندما جاءت ساعة المحاسبة، لم يجدوا سبباً يبرر تجريدهم من الجنسية المكتسبة!، كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل.

 

من المؤلم أن يُمحى التاريخ بجرة قلم!، كيف يمكن لقانون أن يلغي ربع قرن أو أكثر من العطاء؟ وكيف يمكن أن يُنسى جهدهم وإخلاصهم، وكأنهم لم يكونوا هنا يوماً؟

إن قرارات كهذه لا تمس فقط أولئك الذين حُرموا من الجنسية، بل تطال عائلاتهم، أطفالهم الذين وُلدوا ونشأوا وهم يحملون هوية هذا البلد، والذين لم يعرفوا أرضاً غيرها،

كيف سيشعر هؤلاء الأطفال عندما يجدون أنفسهم فجأة بلا هوية، وبلا انتماء، وكأن كل ما بنته عائلاتهم قد انهار في لحظة؟

 

الحديث هنا ليس عن قانونية القرار فحسب، بل عن أبعاده الأخلاقية والإنسانية!، هل يمكن لقانون أن يكون عادلاً إذا كان يترك وراءه ضحايا بهذا الشكل؟ ومن يضمن أن مثل هذه القرارات لا تُتخذ بلا حكمة أو تعسف؟ وهل يمكن أن يعيد الزمن ما أُخذ من هؤلاء الناس؟

 

الوجع هنا ليس وجعهم وحدهم، بل هو وجع كل من يؤمن بأن الوطن يجب أن يكون حاضنة لأبنائه، ولكل من أعطاه دون انتظار. إن سحب الهوية الوطنية المكتسبة ليس مجرد قرار إداري، بل هو جرح في الروح، ووصمة في العدالة، وتذكير لنا جميعاً بأن القوانين وحدها لا تصنع الأوطان، بل تصنعها القيم والإنسانية التي نتمسك بها.

 

إن قرارات كهذه لا تمس فقط الهوية الفردية، بل تمزق النسيج الاجتماعي بأسره!، ويحتاج الأمر إلى رؤية أعمق، وإلى وعي بأن الأوطان ليست مجرد حدود وقوانين، بل هي أيضاً شبكات من العلاقات التي يجب الحفاظ عليها بعناية، لأنها تمثل جوهر الانتماء الحقيقي.

 

في خضم هذا القرار، تبرز مشكلة أشد تعقيداً، وهي أن السنوات الطويلة التي عاشها هؤلاء الأشخاص في هذا البلد لم تمر بلا أثر، فقد اندمجوا في نسيج المجتمع، وأصبحت عائلاتهم جزءاً من عائلات أهل البلد، وتزاوجوا، وتشاركت أسرهم الأفراح والأحزان، وتكونت روابط إنسانية واجتماعية يصعب فصلها بقرار إداري.

عندما يُحرم شخص من الجنسية التي اكتسبها، فإن الصدع لا يقتصر عليه وحده، بل يمتد ليشمل عائلات بأكملها، كيف يمكن لعائلة واحدة أن تتجزأ بين مواطن وغير مواطن؟ وكيف يمكن للروابط التي نشأت على أسس الحب والانتماء أن تتحمل هذا الانفصال المفروض؟

 

هذه العائلات ليست مجرد أرقام أو حالات فردية، بل هي قصص إنسانية مليئة بالتفاصيل!، وهناك أطفال يحملون في عروقهم دماء كلا الجانبين، وينتمون إلى جذور متداخلة لا يمكن تفكيكها، كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يفهموا أن جزءاً من عائلتهم أصبح فجأة غريباً؟ وكيف يمكن لمجتمع أن يحتوي مشكلاتهم، وكيف ستُرمم هذه الصدوع التي قد تهدد بتفكك روابط اجتماعية امتدت لعقود؟

 

لا شك أن للقانون مبرراته التي قد يراها القائمون عليه وجيهة من وجهة نظرهم، ولكن مثل هذه القرارات الجذرية لا يمكن أن تُترك بلا تفسير واضح!، يجب أن يُقدم القانون مبرراته بشفافية للإعلام والرأي العام، حتى يتعاطى الناس مع هذا الخبر بموضوعية وإنصاف، بعيداً عن الغموض الذي قد يثير مشاعر الغضب والاستياء.

 

من الضروري أن تشمل هذه التوضيحات الجوانب الإنسانية والوجدانية، إلى جانب الأطر القانونية، لتقديم صورة متكاملة عن الأسباب التي دفعت لاتخاذ مثل هذا القرار، وإلا، فإن مثل هذا الإجراء سيظل يُنظر إليه ككارثة إنسانية! لا يحتملها هؤلاء الأشخاص الذين تم إنهاء علاقتهم القانونية بالدولة كمواطنين، وقد يؤدي إلى شرخ عميق في الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة، وهو أمر يجب تجنبه بكل السبل.

 

أخيراً، لا أحمل في نفسي على الدولة ومؤسستها (صاحبة القرار)، إلا كل خير، ولكن، أستغفر الله لي ولكم، وفي النفس على هذا (الإجراء الصادم) حاجة. حتماً سيجد المتضرر (منه) وممن سخر من مبتلاهم عبر وسائل الإعلام حاجته وضالته وثوابه عند الله.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...