بين التغيير والحب: كيف نحافظ على ذواتنا ونبني
علاقات أعمق!
في صباح هادئ، بينما تعانق الشمس
نوافذ البيوت، وتراقص الرياح أوراق الشجر، طرح صوت المذيع عبر الأثير سؤالاً يحمل
في طياته هموم البشر!، وأحلامهم المشتركة: هل يمكن للزوج أو الزوجة أن يتغيرا لإرضاء
الطرف الآخر، وتحقيق علاقة زوجية ناجحة؟ سؤال كهذا يوقظ فينا التأمل، ويُشعل جذوة
الذكريات والتجارب!، كان السؤال أشبه بدعوة مفتوحة للتأمل في معنى الحب والتغيير، بل
كان دعوة لاستكشاف ذواتنا في مرآة من نحب.
بينما كنت أقود سيارتي في طريقي إلى
العمل، أرقب تفاصيل الحياة القصيرة من حولي!، إذْ بي وقد سرحت في هذا السؤال
العميق!، هل الحب حقاً تضحية؟ وهل التغيير في العلاقة الزوجية يعني التنازل عن
الذات أم اكتمالها؟ في الحب، كما في الحياة، ليست الإجابة دائماً محددة، بل هي
رحلة طويلة نحو فهم الآخر، وفهم النفس في آنٍ واحد.
أن يتغير الزوج أو الزوجة لا يعني أن
يصبحا شخصين مختلفين، بل أن يجدا طريقة للتوافق في وجه الزمن، وأن يسعى كل منهما
لفهم الآخر، وللتنازل أحياناً عن التفاصيل الصغيرة التي تُعكر الصفو، دون المساس بالقيم
التي تشكل هويتهم، ودون أن يفقد (أحدهما أو كلاهما) هويته، فحينما يتغير الزوج أو
الزوجة، لا يعني ذلك الخضوع، بل النضج، فالتغيير ليس خيانة للذات، بل توافق مع حبٍ
أعظم من الأنا.
يُقال إن الحب يشبه النهر الذي يجري
بلا توقف، ويُعيد توجيه مجراه ليحتضن الضفة الأخرى، دون أن يفقد نقاءه!، وينحت
مساره بصبر وهدوء، وفي الوقت نفسه قادر على تغيير تضاريس الأرض التي يمر بها، لكن،
هل يستطيع النهر أن يُغير اتجاهه؟ أم أن عليه فقط!، أن يتعلم كيف يحتضن الموجات
القادمة من الضفة الأخرى؟ كذلك العلاقات الزوجية، هي مزيج من الثبات والتغير، ومن
الصلابة والسيولة، ومن القدرة على احتواء اختلافات الآخر دون أن نفقد جوهرنا.
ويُقال إن في العلاقات الزوجية، التغيير
ليس ضعفاً، بل علامة قوة، فمن يتغير بدافع الحب، لا يفقد نفسه، بل يعيد اكتشافها!،
"كن كالطائر الذي يغير اتجاهه مع الريح"، كما قال الحكيم الصيني لاو
تسي، "لكن دون أن ينسى هدفه في الأفق."
التغير في العلاقة الزوجية ليس محواً
للذات، ولا استسلاماً لرغبات الآخر، بل هو ولادة جديدة، وهو التقاء روحين تعلما أن
يكبرا معاً، وأن يتجاوزا عقبات الحياة بمرونة وحكمة!، فقد يكون التغيير أشبه برسام
يضيف ألواناً جديدة إلى لوحته، لا ليخفي ملامحها الأصلية، بل ليجعلها أكثر إشراقاً.
أتخيل زوجين يجلسان في زاوية بيت
صغير، بينما تضيء شمعة بينهما دفء اللقاء!، قالت الزوجة لرفيق عمرها، وهي تنظر في
فنجان قهوتها: "أتعلم؟ أحياناً أشعر أنك بحر بلا حدود، لكنني أحتاج إلى نسمة
هواء من جبال بعيدة"، نظر إليها بابتسامة عميقة وقال: "وأنا أراكِ وردة
تتفتح دائماً، لكن أحياناً أشواكها تختبئ خلف عبيرها"، لم تكن كلماتهما عتاباً،
بل كانا يضعان أسس حوار صادق، ذلك الحوار الذي يتطلبه كل زواج ناجح، لأن الحياة
المشتركة لا تُبنى على محاولة إخضاع الآخر، بل على تماهي الطرفين في سيمفونية
واحدة، حيث تكون السعادة هي النغم الأساسي.
"في الحب الحقيقي"، كما قال
الشاعر جبران خليل جبران، "يكون الطرفان كوتدين يحملان سقفاً واحداً،
متباعدين بالقدر الكافي ليبقى السقف قائماً، ومترابطين بحيث لا ينهار."
الحب
كالعشب الأخضر في مروج الروح... يريد ماءً وصبراً ليزهر ويطول.
لكن، ما جدوى الزهور إن بقيت بلا شمس؟ وما جدوى النهر إن جفّ في القلب
الجدول؟
يا أيها
الأزواج في بحر العشق، أبحروا... لكن لا تغرقوا في الأمواج،
تعلموا أن تكونوا سحابة تمطر... وأرضاً تنبت حُبّاً، وإن أخطأ المزاج.
فعلاً، الحب يحتاج إلى ماء وصبر
لينمو، لكنه أيضاً بحاجة إلى شمس تسطع عليه، فلا جدوى من العطاء! إذا كان بلا
تفاهم، ولا قيمة للتفاهم! إذا لم يكن ينبع من القلب!، ربما الحل ليس في أن يتغير
أحدهما كليةً، بل في أن يتحاورا كقائدين لسفينة واحدة، وكل منهما يمسك بيد الآخر، ويتنازل
عن الأنانية، ويُضيف إلى الآخر ما يحتاجه، علاوة على ذلك، الحل يكمن في أن يتعلم
الأزواج فن الموازنة بين ما يمكن تغييره، وما يجب الحفاظ عليه.
في لحظة حب صادقة، قد يقول أحدهم:
"لأجلك سأغير عاداتي"، لكن الطرف الآخر، في علاقة حقيقية، سيجيبه:
"وأنا أحبك كما أنت"، هكذا يتعلم الأزواج أن العلاقة ليست انتصاراً
لأحدهما على الآخر، بل نضجاً مشتركاً، فحين ننظر في قصص الحب الخالدة، نجد أن سر
بقائها لم يكن في المثالية، بل في القدرة على مواجهة العواصف معاً.
العلاقة الناجحة لا تقوم على
الانتصار، بل على التماهي، فالتغيير حين يكون نابضاً بالحب! يُثمر علاقة أقوى، حيث
يصبح كل طرف امتداداً للآخر، لأن الحب، في النهاية، فن أن نتغير معاً دون أن نفقد
أنفسنا!، الحب في جوهره ليس تنازلاً كاملاً، ولا فرضاً مطلقاً، بل هو توازن دقيق
بين الأخذ والعطاء.
في النهاية، الحب ليس أن نكون مرآة
تعكس الآخر، بل أن نكون نافذة تطل على عوالمه، ونسمح له بالإطلالة على عوالمنا.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق