هل ضاعت القيم في زحام الحياة؟ أم هو سعينا وراء
السراب!
العدل هو أساس كل مجتمع سليم، والعظيم
يعرف نفسه، والصغير يعرف الآخرين.
في حفل تكريمٍ أخير، شهدنا موقفاً
مؤسفاً، بينما كان الجميع يهرع إلى تهنئة الفائز الثاني، بقي الفائز الأول وحيداً
في ركنٍ من القاعة، وكأن النجاح الحقيقي يكمن في كسب الإعجاب الشعبي، لا في
الجدارة الحقيقية.
لماذا نُعطي من لا يستحق أكثر مما
يستحق من يملك الكفاءة؟ أليس هذا تناقضاً صارخاً يعكس خللاً في قيمنا ومجتمعنا؟
نحن نعيش في زمنٍ تسوده المظاهر، حيث
يُقاس النجاح بعدد المتابعين والمعجبين، ويُفضل الشكل على المضمون، ولكن الحقيقة
أن القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في عمقه، وفي أفكاره، وفي أفعاله، وليست الجاه
والمال هما مقياس العظمة، بل الكرامة والأخلاق، لذا فلنكن صارمين مع أنفسنا، ولنكن
عادلين مع الآخرين، ولنبنِ مجتمعاً يقدر العلماء والمبدعين، ويحترم الكبار
والصغار، ويقدس القيم النبيلة.
في حياتنا اليومية، نصادف أشخاصاً
يمتلكون من المقام والمكانة ما يفرض احترامهم وتقديرهم، لكن، وللأسف، نجد أن هؤلاء
الأشخاص كثيراً ما يُحجَّمون عن مكانتهم الحقيقية بين أقرانهم، لا لسبب سوى سوء
فهم عميق يظنه البعض خوفاً من معاملة هؤلاء لهم بشيء من الغرور أو الفوقية.
ومن المفارقات العجيبة أن نرى، في
المقابل، أولئك الذين يعكرون صفو المحيطين بهم أو تنقصهم الهمة أو المعرفة،
يتمتعون بحفاوة ومجاملة ربما تفوق استحقاقهم.
كيف يحدث هذا؟ يظن البعض أن تلك المجاملات
تُعد طريقة لتجنب مشكلات محتملة مع هؤلاء الأشخاص، لأنهم قد يسيئون فهم النوايا أو
يتعاملون بردود أفعال غير متوقعة.
وهنا يقف الإنسان العاقل متأملاً:
أليس الأولى أن نُكرم المستحقين ونمنحهم مكانتهم؟ أليس من الأفضل أن نبني علاقاتنا
على الإنصاف والصدق، بدلاً من التنازل عن قيمنا لإرضاء من لا يُقدِّر الجهد أو
التميُّز؟
إن احترام المستحقين يُعد واجباً
أخلاقياً، كما أن التعامل مع كل شخص بميزانه الصحيح هو صورة من صور العدالة
الاجتماعية، لذا، فلنراجع أنفسنا، ولنمنح كل ذي قدر قدره، حتى لا تضيع القيم بين
مجاملة غير مستحقة وتجاهل لا يُغتفر، وعلى النقيض فإن سوء معاملة المستحقين لا
يقتصر على الإضرار بالفرد، بل يتعداه إلى الإضرار بالمجتمع ككل، فحين يشعر الفرد
بأن جهده لا يُقدر، وأن الكفاءة لا تكفي للحصول على الحقوق، يفقد ثقته في المجتمع
ويعتزل العمل والإنتاج، وبهذا تتآكل الثقة بين الناس، وتضعف الروابط الاجتماعية.
علاوة على ذلك، فإن التقليل من شأن
الكفاءة والجدارة يؤدي إلى تراجع قيمة العلم والمعرفة، ويفتح الباب للفساد
والمحسوبية، فالمجتمع الذي لا يقدر علماءه ومفكريه، هو مجتمع لا مستقبل له!، إننا
بحاجة إلى مجتمع يقدر الكفاءة والجدارة، ويمنح كل فرد حقه، حتى نتمكن من بناء
مجتمع قوي ومتماسك.
ومن ناحية أخرى إن المجتمع كالبستان،
فكل فرد فيه كزهرة، فلتكن زهرتنا مشرقة، عطرها يملأ المكان، وليكن عطاؤها سخياً،
يسقي الأرض من حوله، لكن للأسف، في ظل التأثير المتزايد لوسائل الإعلام والمشاهير،
نجد أن القيم والمبادئ قد أصبحت مشوهة، فقد تحولت وسائل الإعلام والمشاهير إلى
مرآة تعكس لنا صورة مشوهة عن القيم والمبادئ، ففي زمن العولمة حيث تتسارع وتيرة
التغيير، أصبحنا نستهلك كميات هائلة من المعلومات والصور التي تشكل وعياً جماعياً
جديداً، وغالباً ما تكون هذه الصورة مركزة على المظاهر الخارجية، والثروة،
والشهرة، على حساب القيم الأصيلة كالعلم والمعرفة والأخلاق، فنجد أنفسنا نسعى وراء
الأضواء والترف، وننسى قيمة العمل الجاد والاجتهاد.
وفي هذا السياق، يظهر جلياً تأثير
فلسفة الاستهلاك التي تحول الأفراد إلى مستهلكين سلبيين، حيث يسعون لتحقيق السعادة
الزائفة من خلال امتلاك الأشياء وتقليد المشاهير!، هذه الفلسفة تغذي شعوراً دائماً
بالنقص وعدم الرضا، فبدلاً من السعي لتحقيق الذات من خلال الجهود الشخصية والتعلم،
نصبح عالقين في دوامة لا تنتهي من البحث عن الإشباع المؤقت عبر الاستهلاك المادي
والتقليد الأعمى.
إن فلسفة الاستهلاك تعزز ثقافة
التباهي بالممتلكات والمظاهر، فتُصبح قيمتنا الفردية محكومة بما نملك وليس بما
نعرف أو بما نساهم به في مجتمعنا، وهذا الانحراف في المفاهيم يؤدي إلى تراجع أهمية
القيم الأخلاقية والعلمية، ويضعنا في موقف صعب حيث يكون الجميع مشغولاً بالسعي
وراء السعادة الزائفة، على حساب النمو الروحي والعقلي.
في الحقيقة، القلب السليم كمرآة صافية
تعكس الحقيقة كما هي، لا تميل ولا تزور، ومع ذلك نجد أن الخوف من الاختلاف والتميز
هو داء يصيب المجتمعات، حيث يميل الإنسان بطبيعته إلى الانسجام مع الجماعة، مما
يدفعه إلى التخلي عن خصوصيته خوفاً من الرفض والعزلة، وهذا الخوف يشكل قوالب جاهزة
للأفراد، فنرفض كل ما يخرج عن هذه القوالب حتى وإن كان على حساب الحقيقة والإبداع.
إن الفلاسفة الكبار مثل جون ستيوارت
ميل وفريدريش نيتشه ناقشوا قيمة الحرية الفردية وأهمية التنوع، فقد أكد ميل على أن
الحرية الفردية هي الأساس لتقدم المجتمع وازدهاره، وأن التنوع في الأفكار
والأساليب يعزز من التطور والإبداع، بينما اعتبر نيتشه أن الجرأة على التفرد
والابتعاد عن القطيع هي ما يجعل الفرد قوياً وقادراً على تحقيق ذاته.
الخوف من الاختلاف يعوق التطور
والابتكار، حيث يتحول الأفراد إلى مجرد نسخ متكررة تخشى الخروج عن المألوف، وفي
هذا السياق، تتلاشى المبادرات الفردية والأفكار الجديدة، ويصبح المجتمع أقل حيوية
وقدرة على مواجهة التحديات، فالحرية الفردية وقيمة التنوع ليستا مجرد مفاهيم
فلسفية، بل هما دعائم أساسية لنمو المجتمع وازدهاره، حيث يُشجَّع الأفراد على
التعبير عن ذواتهم بحرية وتحقيق إمكاناتهم الكاملة دون خوف من الرفض أو العزلة.
لقد شهد التاريخ العديد من الحضارات
التي انهارت بسبب فقدان الثقة بين أفرادها، فحين يتسرب الشك والريبة إلى النفوس،
تتحول العلاقات إلى صراعات، وتضيع القيم والمبادئ، وفي هذا السياق، تتجلى أهمية
التربية على القيم الأخلاقية، لذا تُعد الأسرة والمدرسة والمجتمع الركائز الأساسية
لغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال الصاعدة، إلا أنه في ظل التغيرات السريعة
التي يشهدها العالم، تراجع دور هذه المؤسسات في تربية الأبناء على القيم النبيلة،
فالأهل مشغولون بمتطلبات الحياة، والمدارس تركز على الجانب النظري، والمجتمع يعج
بالفساد والمحسوبية، مما أدى إلى نشوء جيل يفتقر إلى الضمير الحي، ويؤمن بأن
الغاية تبرر الوسيلة.
وهنا تُطرح أسئلة فلسفية ملحة: ما هي
طبيعة الأخلاق؟ وكيف يُكوَّن الضمير؟ هل تُولد القيم الأخلاقية مع الإنسان أم أنها
تكتسب من خلال التربية والتعليم؟ وما دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في تشكيل هذا
الضمير؟
إن التربية الأخلاقية ليست مجرد
مجموعة من التعليمات والقواعد التي يجب اتباعها، بل هي عملية تنمية للضمير الحي
والفهم العميق لما هو صحيح وما هو خطأ.
كيف يمكننا أن نغرس في الأجيال
الصاعدة قيم الصدق، والعدل، والاحترام، في عالمٍ يتعرض فيه الأفراد لضغوط مادية
ومعنوية كبيرة؟ وما هي الأساليب الفعالة لتعليم هذه القيم في ظل التحديات
المعاصرة؟
الأخلاق هي الأساس الذي تبنى عليه
المجتمعات السليمة، فعندما يتعلم الأفراد منذ الصغر أهمية المبادئ الأخلاقية
والعيش وفقاً لها، يصبحون أعضاءً فاعلين ومسؤولين في المجتمع.
إن التربية الأخلاقية يجب أن تكون جزءاً
لا يتجزأ من المنهج الدراسي، وأن تُدعم من خلال ممارسات الأسرة والمجتمع.
الخلاصة:
إن تأثير وسائل الإعلام والمشاهير على
قيمنا، والخوف من الاختلاف، وضعف التربية الأخلاقية، تشكل حلقة مفرغة تعزز بعضها
البعض، فالإعلام يعزز القيم المادية، والخوف من الاختلاف يجعلنا نتقبل هذه القيم،
وضعف التربية الأخلاقية يجعلنا غير قادرين على مقاومتها، ومن هنا، تكمن مسؤوليتنا
في إحداث تغيير حقيقي يبدأ من الداخل، ومن أعماق نفوسنا!، إننا قادرون على تغيير
العالم، إذا بدأنا بتغيير أنفسنا.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق