معادن الرجال: بين الحقيقة والزيف!
في زماننا المعاصر، تغيب الموازين القديمة التي
كانت تميز الرجال بمعادنهم، تلك التي تقوم على الفروسية والشرف والنقاء!، كانت تلك
المعايير قديماً كافية لتحديد مكانة الرجل بين قومه، فهي مرآة تعكس معدنه الحقيقي
من الصلابة والصدق، لكننا الآن! نجد أنفسنا أمام زمن يتصدر فيه المزيفون، الذين
يتقنون صناعة الشخصيات الوهمية، متجاوزين القيم الأصيلة! ليصنعوا لأنفسهم هالة
كاذبة! تحت أضواء الكرم الزائف.
قال الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه:
"قيمة كل امرئ ما يحسن". هذه العبارة تختزل جوهر ما ينبغي أن يقاس به
الإنسان، فالقيمة الحقيقية للرجل ليست فيما يملكه من مال، أو فيما يقال عنه، بل فيما
يقدمه من خير صادق وعمل نافع، لكن المزيفين في عصرنا يحاولون طمس هذه الحقيقة!، إذ
يقدمون الأموال بسخاء لكل من يتحدث عنهم، ويدعمون كل من يمدحهم شعراً أو نثراً،
حتى لو كان هذا المديح لا يمت للحقيقة بصلة.
هؤلاء لا يرون المحتاج الحقيقي الذي يطرق أبوابهم
طالباً العون، إلا نادراً، وإن حدث ذلك، فإن دعمهم يأتي مصادفةً! لا عن نية، فهم
ليسوا كرماء كما يظهرون، بل متاجرون بالكرم، ويقدمون المال لا لإغاثة الملهوف، أو
دعم المستحق، بل لتلميع صورتهم أمام الناس، وليجعلوا أسماءهم تتردد على الألسن
بعبارات مزيفة وكلمات براقة.
ما يصنعه هؤلاء هو صورة ذهنية خادعة، فتجد الناس
يتحدثون عنهم بإعجاب، فيروون قصصاً وهمية عن عظمتهم، ويكتبون قصائد تمدح خصالاً لم
تكن موجودة أصلاً!، وكل ذلك يساهم في تضخيم الكذبة التي صنعوها، حتى يصبح من الصعب
على البعض التمييز بين الحقيقة والزيف!، لكن، وسط هذا الزيف، هناك حقيقة واحدة تظل
واضحة لكل ذي عين بصيرة: المعدن الحقيقي لا يصنعه المال، ولا الكلمات المزيفة، بل
يظهر في الشدائد، حيث تظهر القيم الأصيلة، ففي "نهج البلاغة"، نجد حكمة
عظيمة تقول: "أحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره".
المزيفون يقدمون المال لا لغرض الإحسان، بل
ليصنعوا عبيداً لهم، يمدحونهم، ويبالغون في ذكر فضائل ليست موجودة، وهذه العطايا
ليست كرماً حقيقياً، بل هي أقنعة لإخفاء خواء داخلي لا يمكن ستره إلا بالخداع.
الفيلسوف اليوناني سقراط كان يرى أن
"الحقيقة هي أساس الفضيلة". في زمنه، لم يكن المال معياراً لقيمة
الإنسان، بل كان الفضيلة والصدق هما ما يرفعان من شأنه، لكن المزيفين في عصرنا
يختارون الطريق الأسهل: شراء المديح ونشر الأكاذيب حول أنفسهم، معتقدين أن الهالة
المصنوعة ستمنحهم الخلود بين الناس، إلا أنهم يغفلون أن الحقيقة دائماً تجد طريقها
إلى الظهور، مهما طال الزمن.
الفيلسوف جان جاك روسو قال: "الإنسان يولد
حراً، لكنه في كل مكان يجر سلاسل". في زمننا المعاصر، المزيفون يجرون سلاسل
من المديح المصطنع حول أسمائهم، إلا أن هذه السلاسل لن تدوم، لأنها لا تقوم على
أسس راسخة من الأخلاق والنقاء.
التراث العربي مليء بالحكم التي تسلط الضوء على
الفارق بين الحقيقة والزيف. يقول المثل العربي: "عند الامتحان يُكرم المرء أو
يُهان". هذا المثل يذكرنا بأن المحك الحقيقي للإنسان ليس في الأموال التي
ينثرها، بل في المواقف التي يتجلى فيها معدنه الحقيقي.
ومن أجمل ما قرأت في هذا السياق، هو قول الشاعر
العربي: إذا المرءُ لم يُدنَسْ من اللؤمِ عِرضُهُ فكُلُّ رداءٍ يلبسُ المرءُ جميلُ.
هذا القول يؤكد أن القيم الحقيقية للرجل لا تحتاج إلى زينة أو تلميع، بل تظهر نقية
دون أي تكلف.
أخيراً، علينا أن نتوقف عن الانبهار بالهالات
المزيفة والأموال السخية التي لا هدف لها سوى التلميع، كما يجب أن نعود إلى
الموازين الحقيقية التي تجعل من الرجال عظماء حقاً، وفقاً لما قاله الإمام
الشافعي: "ليس كل من لبس الحرير أميراً، ولا كل من نام على الأرض
فقيراً".
تذكروا، العظمة ليست في المظاهر، بل في الجوهر،
والمال لا يمكن أن يشتري جوهراً حقيقياً.
الحقيقة هي أساس بناء مجتمع قوي ومتماسك، لذا، لا
يمكننا أن نسمح للمزيفين بالاستمرار في خداع المجتمع، واستغلال أوهامنا!
علينا أن نسمح فقط! للقيم الحقيقية أن تستعيد
مكانتها، بعد أن نكشف الحقيقة، ليس لإحراجهم، بل لنضع كل شخص في مكانه الصحيح!، حيث
ينكشف الزائف ويسقط الظلال!
حينها فقط، سنستعيد ثقتنا، والقيم الأصيلة، ومعايير
النبل والشرف التي فقدناها، وسنتمكن من التمييز بين المعدن الأصيل والطلاء البراق،
الذي يخدع العيون!، ويعود للمجتمع احترامه للقيم التي صنعت أمجاده.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق