الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

القرية العالمية والجوار المنسي: تناقض العصر!

 

في زمنٍ أضحت فيه التكنولوجيا تُحرك خيوط حياتنا وتحرك كل شيء من حولنا، بدأنا نعيش في عالمٍ حيث أصبحت العبارات التي تؤكد على "أننا جميعاً في قرية واحدة" تتردد على ألسنة الجميع، وكأنها حقيقة مطلقة! لكن هل يعكس هذا القرب الافتراضي واقعاً حقيقياً في تواصلنا مع جيراننا؟! هل التكنولوجيا، التي كانت وعداً بعالم أقرب، قد قربتنا فعلاً من البشر؟ للأسف، يبدو أن هذا الاتصال الافتراضي قد خلق جسراً بين القارات، لكنه، في الوقت نفسه، بنى جدراناً بين القلوب.

 

إن المشكلة ليست في تقدم المدن أو تزايد الحدود المادية بين البشر، بل تكمن في أعمق من ذلك! لم يعد الجار كما كان في الماضي، هذا الشخص الذي كان يشبه الأخ أو القريب، الذي نشاركه الفرح والحزن، نتبادل معه التهاني في الأعياد، ونواسيه في الأحزان، أما اليوم، أصبح الجار مجرد اسم على الباب أو رقم في العنوان! أصبحنا نمر بجانب بعضنا البعض كالغرباء في شوارع لا تجمعنا سوى الجدران التي نعيش وراءها، حتى إننا أحياناً لا نعرف شيئاً عن جيراننا، بل نراهم فقط من نافذة السيارة، ولا نُحسن سوى إلقاء التحية من بعيد!

 

والأمر الأكثر إيلاماً هو أن تلك العزلة لم تأتِ من قلة المحاولات للتواصل، بل من وفرة الوسائل!، نحن اليوم نعيش في عصر تتوفر فيه أدوات التواصل بشكل يفوق الخيال، لكن هذا التواصل لم يُترجم إلى تواصل حقيقي! فقد جعلتنا وسائل التواصل الاجتماعي نعيش في فقاعة من الأصدقاء الافتراضيين الذين نعرف عنهم كل شيء عدا ما هو حقيقي، فأين التواصل البشري الذي كان يزرع الألفة والمحبة بين الجيران؟ أين تَحادثنا مع الجار في الممر أو نزهتنا معه في الحديقة؟ هذا هو السراب الذي نعيشه في عالم مترابط افتراضياً، ولكنه لا يعكس أبداً حقيقة ارتباطنا ببعضنا البعض.

 

إن الخوف من المجهول وقلق الأمان قد أضافا مزيداً من الحواجز بيننا وبين الآخرين، فأصبحنا نخشى التعرف إلى الجيران، نرتاب في نواياهم، ونبتعد عن التواصل خوفاً مما قد يخبئه العالم، وهذا الخوف، الذي يغذيه الوسائل الإعلامية والإنترنت، أصبح كالشبح الذي يطاردنا في أوقات مختلفة!، لكن المعضلة الأعمق هي أن هذه المخاوف قد جعلتنا نغلق أبوابنا في وجه الجيران والأصدقاء على حد سواء، حتى أولئك الذين يعيشون معنا في نفس البناية، تحت سقف واحد.

 

وهذا التلاشي في الجيرة له آثار أعمق من مجرد فقدان التواصل الاجتماعي!، فالعزلة الاجتماعية، التي أصبحنا نقاسيها جميعاً، تترك أثرها على صحتنا النفسية!، فمنْ يشعر بالوحدة قد يبدأ في تلمس أبعاد القلق والاكتئاب، وقد تتحول الأيام إلى ثقل لا يطاق، تُثقله أفكارٌ لا تجد مكاناً لها في أي قلب، وما كان يجمعنا في الماضي من دعم اجتماعي وعاطفي أصبح اليوم غائباً، وكأننا نعيش في جزيرة نائية، تفرغنا من الحنان والرفقة.

 

وأثر ذلك على المجتمع أيضاً لا يقل أهمية، فعندما تتلاشى الروابط الاجتماعية، فإن المجتمع نفسه يصبح أكثر هشاشة، وأضعف، وعاجزاً عن مواجهة التحديات الكبيرة، فالمجتمعات التي كانت تتمتع بروابط قوية كان بإمكانها الوقوف معاً في وجه الأزمات، أما الآن، فيبدو أن كل فرد يعيش في معزل عن الآخر، ويواجه صعوبات الحياة منفرداً، وكأننا في سباق مع الزمن لا يرحم.

 

لكن الأمل لا يزال موجوداً، فكلما كانت المشكلة عميقة، كانت الحلول أعظم وأكثر تأثيراً، ويمكننا العودة إلى المبادئ الأولى، المبادئ التي جعلت الجار جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، ويمكن للأحياء أن تنظم فعاليات اجتماعية تلتئم فيها الجراح وتغسل فيها أرواحنا، ويمكن للأدوات الرقمية أن تُستخدم كجسر للتواصل الحقيقي بين جيراننا، من خلال تطبيقات مخصصة تعزز الارتباط البشري في وسط العزلة الرقمية.

 

أخيراً، لابد أن نعود إلى التربية والتوعية، فمن خلال حملات تثقيفية، من الممكن أن نعيد للناس وعياً جديداً بأهمية العلاقات الاجتماعية والتواصل البشري، ونعلمهم أن الجيرة ليست مجرد علاقة سطحية، بل هي مسؤولية وتضامن وإحساس بالانتماء.

لنعد إلى الإنسانية، ولنعلم أبنائنا كيف نبني منازلنا في القلوب، ونحيي الجيرة في أرواحنا، فبذلك نعيد معنى الحياة الاجتماعية، ونعيد للزمن نكهته الحقيقية.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...