الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

إلقاء اللوم: سجن لا يفتح إلا من الداخل!

 

قد يكون إلقاء اللوم محاولة يائسة للسيطرة على الموقف والشعور بالقوة، لكن إلقاء اللوم هو في الأساس آلية دفاعية يستخدمها العقل الباطن لحماية الذات من الشعور بالذنب أو الفشل، فبدلاً من مواجهة هذه المشاعر المؤلمة، يتم توجيهها نحو الآخرين، فعندما نلقي باللوم على الآخرين، نختار أن نعيش في سجن من صنع أنفسنا، سجن يقيّد تفكيرنا ويحجب عنا الحقيقة، وبدلاً من أن نبحث عن الحلول، ننهمك في البحث عن أسباب خارجية نلقي عليها مسؤولية أخطائنا، لأن الأشخاص يميلون بطبيعتهم البشرية إلى الحفاظ على صورة إيجابية عن أنفسهم، وعندما تحدث مشكلة، يكون من الأسهل لبعض الأشخاص أن يلقوا باللوم على الآخرين بدلاً من الاعتراف بأنهم قد ارتكبوا خطأ.

 

لا تستسلم لإلقاء اللوم فهو يشبه العدسة المكبرة التي تركز على أخطاء الآخرين وتضخمها، بينما تغطي على أخطائنا الخاصة، وهذه العدسة تحولنا إلى ضحايا دائمين، غير قادرين على تحمل مسؤولية أفعالنا، بينما تحمل المسؤولية يتطلب شجاعة وقبولا للأخطاء، والبعض يجد صعوبة في ذلك ويختارون طريقا أسهل وهو إلقاء اللوم.

 

إلقاء اللوم: لعبة خطرة!

تخيل أنك تبني برجا من الرمال، برجا جميلا ومثاليا في نظرك، ومع كل حبة رمل تضيفها، يزداد برجك قوة وجمالا، ولكن فجأة، تأتي رياح عاتية وتدمر برجك بالكامل، في تلك اللحظة، قد تجد نفسك تبحث عن شخص تُلقي عليه اللوم، بل يتعدى الأمر إلى لوم الرياح، أو ربما الحظ السيئ، لكن الحقيقة هي أن البرج كان هشا منذ البداية، وأنك كنت المسؤول الأول عن بنائه.

 

هذا هو بالضبط ما يحدث عندما نلقي باللوم على الآخرين، فنحن نبني صورة مثالية لأنفسنا، ونضع الآخرين في دور الأعداء الذين يسعون لتدمير هذه الصورة، فبدلاً من التركيز على السلبيات واللوم، حاول أن ترى الأمور من زوايا مختلفة وابحث عن الحلول الإيجابية، وتعلم كيفية التعبير عن مشاعرك واحتياجاتك بطريقة واضحة وبناءة، وعندما تشعر بالحاجة إلى إلقاء اللوم، توقف لحظة في محاولة لتحليل الموقف، لأن اليقظة الذهنية تساعد على زيادة الوعي باللحظة الحاضرة والتقليل من الأفكار السلبية، ثم حاول مجددا أن تجد أشياء تشكر الآخرين عليها، فهذا يساعد على تغيير تركيزك من السلبيات إلى الإيجابيات.

 

تذكر أن صاحب اللوم شخص غير مؤهل للقيادة، ولا يمكن أن يكون قائدا ناجحا، فالقائد الحقيقي هو من يبني العلاقات ويجمع الناس حوله، وليس من يفرقهم ويؤذيهم، ويقتل صاحب اللوم العلاقات ويضعف الروابط الاجتماعية، كما أنه يقتل الطموح والأمل، وهو صورة مشوهة للإنسان، فهو يظهر في أضعف حالاته، حيث يفتقر إلى التسامح والتفهم والتعاطف.

 

وتذكر أيضاً أن إلقاء اللوم يحمي الأنا وكبرياءنا ويجعلنا نشعر بتحسن، وقد نلقي باللوم على الآخرين! لكي نشعر بأننا نملك السيطرة على الموقف، وأحيانا يحدث العكس فقد يؤمن الشخص بأنه دائما ضحية للظروف أو لأفعال الآخرين، وهذا فيه تشويه للصورة الذاتية، ويشبه الأمر شخصا يرى نفسه دائماً على حق، وعندما يرتكب خطأ، فإنه يبحث عن أي عذر ليبرر سلوكه، حتى لو كان هذا العذر غير منطقي، وكذلك الحال قد يلجأ المدير المتسلط إلى إلقاء اللوم على مرؤوسيه لتعزيز سلطته وزيادة سيطرته عليهم.

 

مع الأسف! صاحب اللوم شخص أناني وعدواني لا يضع في اعتباره مشاعر الآخرين، فهو يرى نفسه دائماً على حق، ولا يتردد في جرح الآخرين أو شرخ علاقته بهم، وغضبه يصل إلى حد العنف اللفظي، ولا يتردد في توجيه الاتهامات والإهانات، ولا يرحم ولا يتسامح، فهو لا يقبل أي عذر أو مبرر من الآخرين، وهو عنيد ومكابر لأنه يصر على رؤيته الخاصة للأمور، ولا يسعى لفهم وجهة نظر الآخرين، ونتيجة لسلوكه العدواني، يحصد صاحب اللوم العداوة والكراهية من حوله، فمن ينظر إليه يراه شخصا سلبيا، لا يمكن التعامل معه.

 

ومن الأمثلة الحية بهذا الصدد يمكن تناول العلاقات بين الأصدقاء، والعلاقات الزوجية، فعندما يتشاجر صديقان، قد يميل كل منهما إلى إلقاء اللوم على الآخر بدلاً من محاولة فهم وجهة نظر صديقه، وهذا يؤدي إلى تدهور العلاقة وتباعد الأصدقاء، أما مثال في العلاقات الزوجية، فعندما يتأخر الزوج عن الموعد، قد تلقي الزوجة اللوم عليه مباشرة دون البحث عن أسباب التأخير المحتملة، مثل حادث مروري أو مشكلة في العمل، وهذا السلوك قد يؤدي إلى تدهور العلاقة الزوجية.

 

تأثير إلقاء اللوم على حياتنا، يدمر العلاقات فعلا، فعندما نلقي باللوم على الآخرين، ندمر الثقة المتبادلة بيننا وبينهم، ونعزل أنفسنا فنختار أن نبتعد عن الآخرين خوفا من الانتقاد أو استقبال اللوم، ويمنعنا إلقاء اللوم من التعلم من أخطائنا والتطور، ومنع النمو الشخصي، ويخلق اللوم جوا من التوتر والعداء، يصعب فيه الحوار والحل، فعلى سبيل المثال في بيئة العمل: إذا فشل مشروع ما، قد يميل المدير إلى إلقاء اللوم على الموظفين بدلاً من تحليل الأسباب الحقيقية للفشل، مثل نقص الموارد أو سوء التخطيط، وهذا يؤثر سلبا على معنويات الموظفين ويقلل من إنتاجيتهم.

 

إلقاء اللوم عادة سيئة بامتياز تؤثر على جميع جوانب حياتنا، ويظهر عدم القدرة على التعامل مع المشاعر، ويؤثر على العلاقات الشخصية ويمنع الشخص من تحقيق أهدافه. هل يمكن التغلب على اللوم من خلال الوعي والرغبة في التغيير؟، نعم، يمكن أن يحدث ذلك فقط! إذا اعترفت بأنك المسؤول عن حياتك، فأنت وحدك القادر على تغييرها للأفضل.

 

صاحب اللوم شخصية تحمل في طياتها العديد من الصفات السلبية التي تدمر العلاقات وتعيق التقدم، فهو لا يقتصر على إلحاق الأذى بمن حوله، بل يضع نفسه في موقف الدفاع المستمر، ويعيش في عالم من الوهم، فيرى نفسه دائماً على حق والآخرون مخطئون، وهذا السلوك المدمر يؤثر سلباً على جميع جوانب حياته، ويجعله يعيش حياة مليئة بالصراعات والمشاكل.

 

باختصار:

قال تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. الآية.

هل تعلم أن صاحب اللوم شخصية مركبة وعميقة ومتعددة الأوجه، فهو يظهر القوة والضعف في آن واحد، وشخصية صعبة المراس وصعبة الفهم، لأنه يتصرف بطرق غير متوقعة، وشخصية مثيرة للجدل ومتشابكة، فعلاقاته مع الآخرين معقدة ومتوترة، وشخصية غامضة، ومتقلبة، ومتناقضة في سلوكها.

 

"لا تدع الأمس يسرق اليوم، ولا تقلق بشأن الغد، فالحياة تحدث الآن" – كونفوشيوس.

 

جهاد غريب

أغسطس 2023

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...