صناعة بيئة عمل متوازنة: كيف نتعامل مع من يعتقدون أنهم
يملكون الحقيقة؟
في أروقة العمل، حيث تتقاطع الطموحات
بالأدوار، وتتمازج النفوس في رحلة البحث عن التميز، قد يبرز بين الزملاء شخص يعتقد
أنه يجيد كل شيء، ويمتلك مفاتيح الحكمة والمعرفة المطلقة! شخصٌ لا يكتفي بإظهار آرائه،
بل يطغى حديثه على الآخرين!، كأنه يروي حقيقة لا يعتريها شك، وقد يكون هذا الادعاء
انعكاساً لغرور متضخم، أو محاولة لسد فجوة عميقة في داخله، أو ربما وسيلة لجذب الانتباه
في بيئة تتطلب التنافس والمثابرة.
في التعامل مع هذا النوع من الأشخاص،
تظهر التحديات، فالمواجهة المباشرة قد تثير النزاعات، بينما التجاهل الكامل قد يؤدي
إلى خلل في التوازن المهني، وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نحافظ على بيئة عمل متجانسة،
وفي الوقت نفسه، نتجنب الوقوع في فخ الانقياد خلف ادعاءات لا أساس لها؟
الحفاظ على الاحترام هنا ضرورة لا اختيار،
خاصة إذا كان هذا الشخص يتقلد منصباً أعلى، فمن السهل أن تنجرف نحو النقد أو السخرية،
ولكن الصعب ـ والأنبل ـ أن تحتفظ بمساحة من الاحترام تجعله يرى نفسه في ضوء أكثر واقعية،
أحياناً، الاحترام وحده كافٍ ليكسر غرور الآخرين دون أي مواجهة علنية، ومع ذلك، فإن
الاحترام لا يعني التسليم بكل ما يقال، بل يعني إدارة الموقف بذكاء وتوازن.
الحكمة تبدأ في الإصغاء، ليس من باب
القبول الأعمى، بل من باب الفهم الأعمق، فعندما يدعي هذا الشخص المعرفة بكل شيء، فإن
طرح الأسئلة يصبح أداة فعالة تكشف الغطاء دون أن تهدم العلاقة، فالأسئلة ليست استفزازاً،
بل جسور تفتح الأفق للنقاش الحقيقي، والإنصات بحكمة لا يُسقط الهيبة، بل يعزز مناخاً
مهنياً مبنياً على الحوار، وعندما تكون التفاصيل غائبة في حديثه، فإن التوجيه بأسلوب
غير مباشر قد يكون السبيل لإعادته إلى الواقع دون إحراجه.
ومن جهة أخرى، الاستماع الفعال فهو أداة
قوية في التعامل مع الأشخاص المتعاليين، عندما نستمع بانتباه دون مقاطعة، نُشعر الشخص
الآخر بأننا نحترمه ونقدر رأيه، ويمكننا أيضاً استخدام عبارات مثل "أفهم ما تقصده"،
أو "هذا منظور مثير للاهتمام"، لتشجيعه على الاستمرار في الحديث، وهذا النهج
يساعد على تهدئة الأجواء وخلق مناخ من الحوار البناء.
التواضع في تقديم المعرفة هو درس آخر
يقدَّم دون كلمات مباشرة، فعندما تعرض معرفتك بشكل هادئ ومتواضع، فإنك تقدم نموذجاً
يُحتذى به، وربما تدفع الآخرين ـ حتى أولئك المدعين ـ إلى التفكير في نهجهم، فالتواضع
ليس علامة ضعف، بل هو دليل قوة، فهو يكشف عن ثقة راسخة لا تحتاج إلى صخب أو استعراض.
يُشير الخبراء في علم النفس
التنظيمي إلى أن الأشخاص الذين يميلون إلى التفاخر بمعرفتهم غالباً ما يعانون من
انعدام الثقة بالنفس الحقيقي، وهذا السلوك قد يكون وسيلة للتغطية على مخاوفهم من
الفشل، أو النقد، ويمكننا أن نستفيد من تقنيات التواصل غير اللفظي، مثل: الحفاظ
على التواصل البصري والإيماء برأسنا، لإظهار اهتمامنا بما يقوله الشخص الآخر، وهذا
النهج يساهم في بناء جسور من الثقة والتفاهم.
وتُشير الدراسات إلى أن وراء هذا
السلوك عوامل نفسية عميقة، فلنتعرف على هذه الدوافع لنتمكن من التعامل معها بحكمة،
ربما كان الأهم هو القدرة على فهم الدوافع الخفية وراء هذا السلوك! فخلف كل ادعاء
يكمن سبب، وقد يكون شعوراً بالنقص، أو خوفاً من التهميش، أو حاجة دفينة للاعتراف
والتقدير، وإذا استطعنا رؤية هذا البُعد الإنساني، فإن التعامل يصبح أكثر رحمة
وأقل حدة، حيث إن النظر إلى الآخرين بعينٍ ترى ضعفهم الإنساني يجعلنا أكثر تفهماً
وأقل انفعالاً.
تذكر، عندما نتعرض لمواقف صعبة في العمل،
مثل التعامل مع شخص متعالي، فإننا نكتشف جوانب جديدة من شخصيتنا، وقد نكتشف صفات لم
نكن نعرفها عن أنفسنا، مثل الصبر والتحمل، أو قد نتعلم كيفية الدفاع عن معتقداتنا بطريقة
مهذبة وواثقة، وهذه التجارب تساهم في تشكيل هويتنا وتساعدنا على النمو والتطور.
في النهاية، التعامل مع من يدعي المعرفة
بكل شيء ليس مجرد اختبار للمهارات المهنية، بل هو رحلة لفهم النفس والآخر!، إنه دعوة
لترويض التحديات بذكاء عاطفي وفطنة إنسانية، حيث لا تصبح الغاية إثبات الخطأ، بل خلق
بيئة متجانسة تسودها روح التعاون والاحترام.
إن هذا النوع من التحديات يُعيد صياغة
دورنا في العمل، ليس كأفراد يبحثون عن الإنجاز فقط، بل كأرواح تتعلم كيف تُلهم وتؤثر،
وكيف تُعيد بناء الثقة دون هدم العلاقات، ففي النهاية، النجاح الحقيقي ليس في الانتصار
على الآخرين، بل في خلق مساحة للجميع لينمووا ويتطوروا معاً، حتى أولئك الذين يظنون
أنهم يعرفون كل شيء.
في خضم هذا التنوع الهائل من الشخصيات،
يظل التعامل مع من يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة تحدياً مستمراً، فكيف يمكننا
أن نحافظ على احترام الذات دون التضحية بمبادئنا؟ وكيف نستطيع أن نساهم في بناء بيئة
عمل إيجابية تسودها روح التعاون؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها، وتدعونا إلى التفكير والتأمل.
أخيراً، كل واحد منا يحمل في داخله القدرة
على تغيير نفسه والعالم من حوله.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق