الخميس، 26 ديسمبر 2024

 

فن بناء العلاقات: بين الحدود الصحية وسلام الروح!

 

في دوامة الحياة المتشابكة، يبدو أننا نمضي أوقاتاً طويلة محاولين فك ألغاز العلاقات الإنسانية، تلك الروابط التي تحمل في طياتها معاني التضحية والصداقة والمحبة، لكنها في ذات الوقت تحمل اختباراتٍ معقدة!، لحدود الصبر والفهم، وتتكرر المواقف التي يجد فيها الإنسان نفسه أمام قرارات تتطلب حكمة كبيرة، ومرونة نفسية! لمواجهة التحديات التي تفرضها العلاقات مع الآخرين، وكأنَّ هذه الروابط أحياناً مرآة تكشف لنا نقاط ضعفنا وقوتنا.

 

الحدس يُعرف بأنه القدرة على فهم، أو توقع شيء ما دون الحاجة إلى التفكير المنطقي، أو الدليل المادي، إنه إحساس داخلي، أشبه برسالة خفية تأتي من اللاوعي، ويُعتقد أن الحدس يرتكز على تجارب الإنسان السابقة، وملاحظاته الدقيقة التي تُخزن في العقل اللاواعي، وتُستخدم لاحقاً، لتوليد شعور، أو إدراك مفاجئ، لكن يبقى السؤال: هل هو إحساس مستقل تماماً، أم أنه نتيجة تفاعل بين الحدس والعقل اللاواعي؟

 

هناك جدل حول طبيعة هذا الإحساس، فبعض العلماء يرون أن الحدس ليس إلا نتيجة تحليل سريع وغير واعٍ للبيانات والمعلومات التي جمعها الإنسان في حياته، بينما يرى آخرون أن هناك أبعاداً روحية، أو طاقية تلعب دوراً في هذه الظاهرة، ما يجعلها تبدو أحياناً كقدرة خارقة، وهذه الأبعاد غير الملموسة قد تكون جزءاً من الطبيعة الإنسانية التي تربطنا بالعالم الأكبر.

 

عندما نتأمل كيف تتأثر حياتنا بآراء وتوجهات من حولنا، يظهر لنا مشهد متشابك من التداخلات!، صديقٌ تأثر بآراء آخرين وابتعد عنك دون مبرر، أو زميلٌ يتذرع باعتذارات واهية تعكس افتقاره للوضوح في التواصل، وفي هذه اللحظات، تُثار أسئلة وجودية عميقة: هل نحن من يحدد حدود هذه العلاقات، أم أنها تُشكلنا وتعيد صياغة هويتنا؟ وهل الحدس يلعب دوراً في فهم هذه التفاعلات؟

 

إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لكن هذه الطبيعة لا تعني أن نفقد فرديتنا في خضم التفاعل مع الآخرين، فهناك خطٌ رفيع بين التفاعل الإيجابي، وبين الوقوع في شَرَك الانصياع غير المبرر، لذا، تتجلى الحاجة الماسة إلى وضع حدود صحية، تلك الحدود التي لا تهدف إلى العزلة، بل إلى حماية النفس من الاستنزاف العاطفي والفكري.

 

أمثلة من الواقع تضفي بعداً عملياً على هذا النقاش!، إحساس الأمهات، على سبيل المثال، غالباً ما يكون دليلاً على قوة الحدس، فكم من أم شعرت بخطر يحيط بأطفالها رغم بُعد المسافة، وتبين لاحقاً أن شعورها كان صادقاً؟ وفي الحياة العملية، قد يشعر قائد شركة، أو مدير مشروع بأن فكرة معينة ستنجح، أو تفشل دون أن تكون لديه بيانات واضحة، ومع ذلك يتخذ القرار بناءً على هذا الإحساس! ويتبين صحته لاحقاً، بل إن بعض الأشخاص يحكون عن شعور قوي تجاه اختيار طريق معين أثناء القيادة لتجنب حادث، أو إحساس بعدم الراحة تجاه شخص!، ما يثبت لاحقاً أنه غير موثوق.

 

حين تبدأ بوضع حدود واضحة، فإنك تعيد صياغة ديناميكيات العلاقات، فتصبح أكثر وعياً بما تريد وما لا تريد، وهنا، يظهر مفهوم الاعتذار كعنصرٍ محوري، فليس كل اعتذار يجب أن يُقبل، وليس كل موقف يتطلب اعتذاراً، فالتسامح الذي يُبنى على فهم حقيقي للذات والآخر، هو ما يمنح العلاقة عمقاً واستمرارية، بينما التسامح الذي ينبع من ضعف، أو خوف، فإنه يخلق اختلالاً يُثقل كاهل الروح.

 

العلم أيضاً لم يغفل عن دراسة الحدس، إذْ يحاول علماء النفس والدماغ تفسير هذه الظاهرة من خلال دراسة الدماغ البشري، ويُعتقد أن الجزء المسؤول عن الحدس هو العقل اللاواعي، الذي يعمل كمعالج للمعلومات بسرعات تفوق العقل الواعي، وهذا التفاعل بين الحدس والواقع يعكس جزءاً من طبيعة الإنسان المعقدة التي تجمع بين العقل والعاطفة والتجربة.

 

أخيراً، العلاقات الإنسانية ليست مثالية، وهي أشبه بلوحة فنية تتداخل فيها الألوان والزخارف بشكل فوضوي أحياناً، لكنها، في النهاية، تُظهر لنا لوحة تعكس طبيعة الحياة نفسها: معقدة، جميلة، وأحياناً مؤلمة، لذلك، علينا أن نتعلم كيف نُقدِّر هذه اللوحة دون أن نفقد أنفسنا في تفاصيلها، فالعيش بوعي ووضوح في العلاقات هو المفتاح لإيجاد السلام الداخلي في عالمٍ متغير.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...