رحلة الإنسان: بين الوفرة والنقص!
الإنسان، هذا المخلوق الذي خُلق من بعدٍ عالٍ،
مسخَّر له الكون بأسره، والأرض بسهولها وجبالها، والسماء بامتدادها الذي لا ينتهي،
إنه مخلوق يحمل داخله أسراراً عميقة وقدرات هائلة، لكنّه أيضاً يقف على شفا الشعور
بالنقص، ذلك الشعور الذي يحجب عنه نوافذ الوفرة ويكبّله بالخوف.
إن الله الذي سخَّر للإنسان السماوات والأرض! لم
يخلقه ليعيش في قيد النقص أو أسر الخوف، بل أوجده! ليكون في حالة من التوازن بين
ماديّاته وروحانيّاته، وبين احتياجاته الدنيوية وتطلعاته المعنوية.
قال رالف والدو إمرسون: "ما يكمن خلفنا وما
يكمن أمامنا أمور ضئيلة مقارنة بما يكمن داخلنا".
كثيرون يعتقدون أن الإنسان إذا ما استطاع تغيير
مشاعره وأفكاره السلبية، فإنه بذلك يفتح لنفسه أبواب الوفرة، فالمال، على سبيل
المثال، ليس مجرد ورق أو معدن، بل هو فكرة، ترتبط بالاستحقاق، فإذا أقنع الإنسان
ذاته بأنه يستحق هذا المال، وإذا استطاع التغلب على الأفكار التي تخبره بعكس ذلك،
فإنه بلا شك سيجد المال يتدفّق إليه من حيث لا يحتسب. قال بوب بروكتور: "المال
مظهر من مظاهر الوفرة، وإذا آمنت أنك تستحقه، فستجده دائماً في طريقك".
لكن، هل المال هو كل شيء؟ هنا يقف الإنسان في
مواجهة حقيقة أكبر، فالمال، رغم أهميته، ليس الغاية العظمى!، والإنسان لا يحتاج
فقط إلى الوفرة المادية، بل هو بحاجة إلى صوتٍ جميل يُسمع، وإلى موهبةٍ تُضيء
حياته، وإلى صفاتٍ نقية تجعله أكثر إنسانية، فهو يحتاج إلى الوفاء، وإلى النقاء، وإلى
أن يكون شفافاً بعيداً عن الكذب والخداع.
قال ألبرت أينشتاين: "لا تسعَ لأن تكون ناجحاً،
بل اسعَ لأن تكون ذا قيمة". هذه القيمة تتمثل في أن تكون إنساناً بمعنى
الكلمة، وأن تكون صادقاً مع نفسك ومع الآخرين، وأن تبني حياتك على أساس من المبادئ
والقيم، لا على أساس الطمع أو الجشع.
قد يبدو المال، للوهلة الأولى، المحرك الأساسي
لكثير من احتياجات الإنسان، لكنه ليس الدواء الشافي لكل نقص!، كم من إنسانٍ امتلك
المال لكنه عاش في فراغٍ عاطفي أو معنوي!، وكم من إنسانٍ عاش حياته فقيراً لكنه
كان غنياً بالقيم والمبادئ، مليئاً بالحب والعطاء. قال ليون تولستوي: "الجميع
يفكر في تغيير العالم، لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه".
إن الوفرة الحقيقية ليست في المال فقط، بل في
التوازن، وأن يملك الإنسان المال ليحقق متطلباته، ولكن أيضاً أن يملك القلب الذي
ينبض بالإيمان، والعقل الذي يزهر بالإبداع، والروح التي تحلّق بعيداً عن قيود
المادة، فالوفرة ليست أن تكون غنياً فقط، بل أن تكون مكتفياً ومتصالحاً مع ذاتك.
وفي نهاية المطاف، يدرك الإنسان أن رحلته في هذه
الحياة ليست لملء جيوبه، بل لملء قلبه وروحه!، المال وسيلة، لكنه ليس غاية، والوفرة
الحقيقية تكمن في أن يعيش الإنسان حياة مليئة بالقيم، بالمحبة، بالسلام الداخلي،
وبالإيمان العميق بأن ما يُسخَّر له هو نعمة تستحق الشكر والتقدير. قال مهاتما
غاندي: "السعادة هي عندما يتوافق ما تفكر فيه، وما تقوله، وما تفعله".
هكذا، يعيش الإنسان بين الوفرة والنقص، ويتأرجح
بين ما يريده وما يحتاج إليه، ويبحث عن التوازن الذي يملأ حياته بالمعنى الحقيقي،
وفي كل خطوةٍ يخطوها، يتعلم أن الوفرة ليست في الحصول على كل شيء، بل في الشعور
بالاكتفاء بما لديه.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق