حين يتحول العتاب إلى صمت
"عن النداء الأخير قبل انطفاء الصوت"
كثيرًا ما يُصوَّر العتاب في سياق العلاقات على أنه جسرٌ للترميم، أو
لغةٌ لا يتقنها إلا من يحبون بصدق.
لكن قلما يُدرك أحد أن العتاب، في كثير من الأحيان، ليس رسالة تقويم،
بل صرخة نجاة أخيرة.
إنه النداء الذي يُطلقه القلب من حافة الانهيار، حين تتحول الحوارات
إلى أحاديث مع الصمت، والرجاء إلى مناجاة للجدران.
في تلك اللحظة، لا يكون العتاب وسيلةً للعودة، بل شاهدًا على موت
التواصل، على المسافة التي اتسعت حتى صارت جرحًا.
العتاب لا يولد من فراغ؛ بل هو نتيجة تراكمات من الخذلان والإهمال.
هو الورقة الأخيرة التي يراهن بها الإنسان على وجود صدى لصوته في قلبٍ
آخر.
لكن حين يُقابل هذا النداء بالتجاهل أو بالتهكم، يتحول من محاولة تقارب
إلى خيبةٍ موجعة.
يشعر صاحب العتاب أن وجوده العاطفي أصبح عبئًا، وأن مشاعره غير مرحب
بها، فيبدأ الانسحاب الهادئ من العلاقة.
القطيعة لا تبدأ بالجفاء، بل حين يفقد الأمل في أن يُفهم.
ثم تأتي اللحظة التي لا تسعها الكلمات.
بعد أعوامٍ من الصبر والكبت، ينفجر ما تراكم في الأعماق كبركانٍ صامتٍ
طال انتظاره.
يخرج الألم على هيئة صرخة، أو دمعة، أو حوارٍ غاضب، لكنه في جوهره
إعلان صدق لا اعتداء.
ورغم ذلك، يُفسَّر الانفجار غالبًا كهجوم، فيُلام صاحبه لا على ما فُعل
به، بل على جرأته في التعبير عمّا فُعل به.
تُجرّم الصراحة بينما يُغفر التجاهل، ويُعاقَب من يتكلم أكثر ممن يصمت
وهو ينزف.
وحين تعجز اللغة، يبدأ الجسد في الكلام.
كسرُ كأس، تمزيقُ رسالة، أو حتى انسحابٌ مفاجئ — كلها لغاتٌ بديلةٌ
يحاول بها الإنسان أن يقول:
"ما ينكسر في داخلي أكبر مما أُظهره".
لكن المجتمع يكتفي بإدانة الفعل الظاهر، متجاهلًا الألم الباطن الذي
أطلقه، كأن الجرح الحقيقي لا يُحسب ما لم يُنزف علنًا.
في النهاية، القطيعة ليست غيابًا فحسب، بل اعترافٌ بالهزيمة:
هزيمة الصوت أمام الصمت، والعاطفة أمام البرود، والأمل أمام
اللامبالاة.
ذلك العتاب الذي لم يُستجب له، وذلك الانفجار الذي لم يُحتوَ، وذلك
الانسحاب الذي لم يُفهم —
كلها محطات في رحلةٍ من النداء إلى الانطفاء.
لكنها، في جوهرها، ليست ضعفًا، بل دليل على إنسانٍ أراد أن يُحَب، أن
يُرى، أن يُسمع.
وحين قرر الصمت أخيرًا، لم يكن هروبًا، بل وقفة كرامةٍ أخيرة لإنسانٍ
قال كل شيء، ولم يسمعه أحد.
أحيانًا، لا يكون الصمت نهاية الحكاية، بل أصدق شكلٍ من أشكال العتاب.
فحين يُطفئ القلب صوته، يكون قد قال كل ما لا تُقاله الكلمات.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق