المرأة في المنفى الصامت
"منفى لا تصنعه الجغرافيا بل يصنعه
التجاهل"
في كثير من
البيوت، تبدأ الحكاية بصمت؛ امرأة تتحرك بين الغرف كأنها ظل، تحضر حيث يحتاجها
الجميع وتغيب حين تُوزّع الكلمات الدافئة. في صميم هذا المشهد تعيش المرأة حالة من
منفى غريب؛ منفى لا علاقة له بالبعد الجغرافي، بل بغياب الاعتراف. تقدّم فيه
الخدمة ويُنكر فيه الجهد، تُذكر حين تكون هناك حاجة إليها وتُنسى حين تُوزع
الامتيازات. تتحول شيئًا فشيئًا إلى خادمة غير مرئية، كائن يقدم كل شيء دون توقع
مقابل، ثم يُنسب إليه فضل كل ما هو إيجابي ويُحرم من حقوقه حين يحين المطالبة بها.
في هذا المشهد،
تصبح المرأة أسيرة خدمة مستمرة بلا عطلة، بلا شكر، بلا تقدير... بلا اعتراف. تبدأ
يومها قبل الجميع وتنهيه بعدهم، تمسح الأرض، تعد الطعام، ترعى الصغار والكبار، سواءً
كانت زوجةً تنتظر كلمة شكر، أو أمًا تفتقد نظرة تقدير، أو ابنةً كبرى تحملت ما يفوق
طاقتها... يظل وجودها في النهاية أمرًا مفروغًا منه، كهواء يُستهلك ولا يُلاحظ. لا
يُسأل عنها إن تألمت، ولا يُشكر جهدها إن أتقنت، لأن ما تقوم به يُعتبر
"طبيعيًا" لمجرد كونها امرأة.
وكل ذلك يجري
بصمت مرهق؛ صمت تتراكم فيه الأيام عليها كما تتراكم الأطباق في المطبخ: كثيرة،
صامتة، لا يراها أحد إلا حين تختفي.
هذا الاستنزاف
الهادئ لا يقل خطورة عن العنف الصارخ، لأنه ينهش في الروح يومًا بعد يوم، ويحوّل
الحياة إلى سجن من واجبات بلا حقوق. وكلما تراكم التجاهل، اتسعت المسافة بين
المرأة وبيتها؛ فغياب التقدير قد يصنع من البيت... أبعد المنافي.
وحين يغيب
الاعتراف... وتبقى المرأة وحدها في واجهة الحياة، تتحول المطالبة بالحق إلى معركة
غير عادلة، تخوضها امرأة أنهكها الصمت. وعندما تصل إلى حد التعبير عن احتياجها
للراحة والتقدير، تواجه آلة من التجاهل البارد؛ تُلام على طلبها، وتُتَّهم بعدم
الامتنان، ويقال لها إنها "اختارت هذا المصير بنفسها".
القرابة التي
كانت مصدر فخر بالأمس تتحول إلى ورقة يمكن تمزيقها متى شاء الآخرون. يُنسى كل ما
قدمته من تضحيات، ويُختزل تاريخها كله في لحظة واحدة: لحظة مطالبتها بالحق. وكأن
المرأة يجب أن تظل صامتة، شاكرة، مستعدة للعطاء بلا حدود، وإلا فقدت حقها في
الانتماء.
والأكثر ألمًا
هو الطرد اليومي، الذي لا يأتي دائمًا على شكل إخراج مادي من البيت، بل قد يكون
إخراجًا عاطفيًا من القلب. نظرة احتقار، كلمة جارحة، إشارة بالرحيل، كلها أشكال من
الطرد اليومي الذي تتعرض له المرأة التي تجرؤ على المطالبة بحقها. تشعر حينها
بأنها ضيف ثقيل في بيتها، غريبة بين أهلها، كائن مؤقت في حياة من يفترض أنهم أقرب
الناس إليها.
في النهاية،
ليست المرأة بحاجة لهدايا أو تعويضات مادية، بل إلى اعتراف بسيط: اعتراف بوجودها،
وأن لها مشاعر واحتياجات، وأن ما تقدمه من جهد له قيمة. كلمة الاعتراف قد تبدو
صغيرة، لكنها تملك قدرة سحرية على التئام الجروح. وحين يُقال لها: "نرى
تعبكِ، ونقدّر ما تقدمينه"، تتحول من منفية صامتة إلى مواطنة كاملة الحقوق في
وطنها الصغير المسمى "البيت".
فالاعتراف هو
الجسر الذي يحوّل العطاء الصامت إلى حضور حقيقي؛ جسر يعيد للمرأة وطنها بسطر واحد
صادق. وطن لا تُقاس حدوده بالجدران، بل بالكرامة التي تسكنه.
فالبيت الذي لا
يعترف بامرأة، يفقد عموده الفقري مهما بدا قائمًا؛ فكيف يقف البيت على عمود فقري
مكسور؟ ومن هنا يصبح الاعتراف بوابة العودة… الطريق الذي يعيد للمرأة وطنها داخل
الجدران نفسها.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق