الخميس، 27 نوفمبر 2025

القلوب خلف الزجاج

 

القلوب خلف الزجاج


"وهم الكمال: حين تصبح بيوتنا متاحف للديكور وتتحول قلوبنا إلى أنقاض"

 




في مجتمعاتنا التي ترفع شعار المظاهر وتقدس الواجهات، أصبح من المألوف أن تتحول البيوت إلى متاحف للديكور، بينما تتحول القلوب إلى أنقاض مهملة. إنها المفارقة الصارخة: كأس زجاجي مكسور يثير عاصفة من اللوم والاتهامات، بينما قلب امرأة مكسور يُترك لينزف في صمت، كزهرة ذابلة في زاوية مظلمة، لا يراها أحد وسط بريق التحف. في هذه المساحات "المزينة" بعناية، تُقاس القيمة بما يمكن لمسه ورؤيته، لا بما يشعر به الإنسان. فالمرأة التي تجرؤ على البوح بآلامها تواجه اتهامات مثل "إفساد الجو" و"تعكير الصفو"، وكأن مشاعرها مجرد قطعة ديكور غير متناسقة مع زخارف البيت.

 

هذه العقلية المادية لا تتوقف عند تفضيل الأشياء على البشر، بل تمتد لتعيد تعريف العلاقات الإنسانية. فبدلًا من أن تكون المشاعر لغة التواصل الأساسية، تتحول الهدايا باهظة الثمن إلى بديل عن الاعتذار، وتصبح الصور على وسائل التواصل الاجتماعي بديلًا عن الحضور الحقيقي، وتتحول فواتير العيادات النفسية إلى شهادة على عجزنا عن الاستماع، ويصبح الأثاث الفاخر بديلًا عن العناق الدافئ. ترى، أي حضور ذلك الذي يملأ العين ويُجْوِعُ الروح؟

 

في هذه المعادلة المقلوبة، تحتل الماديات المرتبة الأولى، بينما يُدفع الإنسان إلى هامش الاهتمام. فالديكور هنا ليس مجرد ذوق جمالي، بل أداة قمعية تُخفي العفن تحت طبقات من الورنيش، وتُسكت الأنين الحقيقي خلف جدران من الحرير.

 

وحتى الدعاء، الذي يفترض أن يكون وسيلة للرحمة والغفران، يتحول إلى أداة للتهديد والضغط. المرأة التي ترفض الصمت، وتجرؤ على قول الحقيقة، تسمع أدعية بالموت والطرد: "الله لا يصلحك، ولا يبارك فيك"، بدلًا من كلمات التفهم والدعم: "الله يشفيكِ ويعينك". هذا النوع من الدعاء لا ينبع من الإيمان، بل من رغبة في استعادة النظام القائم على الزينة والواجهة.

 

في النهاية، هذه البيوت تبني جدرانها من الرخام، وتهدم جسورها من المشاعر. ليست سوى مساحات فارغة من المعنى. قد تبدو جميلة، لكنها خالية من الدفء الإنساني. الحقيقة التي يجب أن ندركها جميعًا هي أن القلوب المكسورة لا يمكن استبدالها، بينما كل قطع الديكور – مهما بلغت قيمتها – يمكن تعويضها. البيوت الحقيقية تُبنى بالقلوب التي تتحاور في ظلام الليل دون خوف، وبالأيادي التي تمسح دموعًا لا يراها أحد غيرها، وبالضحكات التي تملأ البيت دون أن تهشم فيه قطعة، والأصوات التي تهمس: "أنتِ أهم من كل ما في هذا البيت".

 

الجمال الحقيقي لا يُقاس بالزجاج أو التحف، بل بالقلوب التي تضيء البيوت دفئًا وحياة.

 

جهاد غريب

نوفمبر 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب خلف الزجاج

  القلوب خلف الزجاج "وهم الكمال: حين تصبح بيوتنا متاحف للديكور وتتحول قلوبنا إلى أنقاض"   في مجتمعاتنا التي ترفع شعار المظ...